العدد 13 - أردني
 

جمانة غنبمات

بعد تلكوء وعبثية القرارات الحكومية السابقة، تواجه الحكومة الحالية استحقاق نفض قطاع النقل العام وبناء شبكة متكاملة بفعّالية عالية، وصولاً إلى تخفيض ثلث فاتورة النفط وإنهاء معاناة آلاف المواطنين.

سياسات الاسترضاء والتخبط التي استمرت لعقود، انعكست على نمو وتطور قطاعات مختلفة منها النقل، الذي لاقى إهمالاً أنسى القائمين عليه أن التطور الحضاري والرفاه يمشي جنباً إلى جنب مع خدمات النقل العام للركاب والسلع، بحسب ما يشتكي خبراء في قطاع النقل.

«تخلّف» النقل العام يلقى بظلاله على الاقتصاد الكلي، يثقل موازنة الدولة ويضخم فاتورتها النفطية. كذلك تؤثر «فوضى» القطاع وتدني خدماته على الاقتصاد الجزئي، إذ يضاعف معاناة آلاف الأسر التي تعزف عن استخدام حافلات النقل العام لسوء أحوالها وعدم توافر خطوط تغطي المناطق الجديدة ما يرفع إنفاقها على النقل.

ارتفع إنفاق الأسرة على النقل والاتصالات من 1ر13 بالمئة من مجمل دخلها العام 2002 إلى 8ر15 بالمئة العام 2006، بحسب مسح دخل ونفقات الأسرة. لذلك تتصدر إعادة هيكلة النقل على أسس منهجية التحديّات أمام حكومة الذهبي بعد رفع أسعار المحروقات، إذ عليها تخفيض فاتورة الطاقة وتوسيع قاعدة مستخدمي هذا القطاع الذي يستحوذ على 37 بالمئة من مجمل استهلاك الوقود.

ويشتكي مستثمرون في النقل من «تخبط» سياسات الحكومات المتعاقبة، ويؤكدون أن غياب الوعي بأهمية هذا القطاع عرقل خطط تطويره ودفع العديد من مستخدميه إلى هجره، بينما تضطر الأغلبية لاستخدامه في غياب البدائل.

أسباب تخلف القطاع

مسؤول حكومي في هيئة تنظيم قطاع النقل العام يرى أن «تلكؤ الحكومات كان أحد أهم أسباب تخلف القطاع»، بدل أن يشكّل رافعة اقتصادية للدولة على غرار البلدان المتقدمة.

ويرى المسؤول أن الحكومة أخفقت في إحداث توازن بين خطط رفع الدعم عن المحروقات التي بدأت العام 2004 وانتهت في السابع من شباط الجاري، وبين إيجاد نظام نقل "كفء ولائق" يغني عن استخدام سيارات الركوب الخاصة لتخفيض نفقات التنقل الداخلي.

المسؤول السابق الذي يرفض الإشارة إلى هويته، يستذكر تأخير مشروع تأسيس الشركة المتكاملة، كان يفترض أن ترى النور في آب/أغسطس الماضي.

غياب خطّة شاملة حتى اليوم "خلق سوء توزيع في خطوط النقل العام" التي تفتقر لها العديد من مناطق المملكة، بحسب المسؤول الذي يكشف أن "الحافلات الجديدة التي أدخلت إلى الأسطول الحالي غير ملتزمة بالمواصفات" المتفق عليها.

ويؤكد المسؤول أن "تأثير أصحاب النفوذ على صناع القرار أدى أيضاً لحالة فوضى، وغض النظر عن مشاكل القطاع" مضيفاً أن "كبريات الشركات يمتلكها مسؤولون سابقون ونواب حاليون وسابقون". كما "لعبت العلاقات الشخصية دورا في تحديد مسار القطاع وانحداره"، بحسب المسؤول.

«المزاجية في التعامل مع المشغلين» لا سيما ما يتعلق بتحديد الأجور، أدت إلى تعقيد المشاكل في ظل غياب استراتيجية واضحة لتحديد أجور النقل تقوم على أسس علمية منها المسافة وتكلفة النقل، بحسب مشغلين في القطاع.

يفاقم الأزمة "تعدد المرجعيات وغياب التنسيق بينها والتنافس وإلقاء المسؤولية على الآخر والتنصل منها (الداخلية، والأمانة، ووزارة النقل، وأخيراً هيئة تنظيم قطاع النقل). كل ذلك خلق قطاعاً مشوهاً يعاني من مشاكل معقدة في مقدمتها ضعف البنية التحتية للقطاع.

المسؤول ذاته يقول إن انشغال الهيئة - التي تأسست قبل 7 سنوات - بإعداد الأنظمة والتشريعات لسنوات طويلة "أقعدها عن مهمتها الأساسية وهي تطوير القطاع"، مبيناً أنها تعاملت مع المشغلين "بصفتها مؤسسة لجمع الأموال بدل التركيز على تحسين نوعية الخدمات وترتيب الوسائل مثل الشواخص ومظلات الركاب".

ويشاركه في الرأي مدير هيئة تنظيم قطاع النقل هاشم المساعيد الذي يقر "بتأخر تطوير القطاع". ويرجع المساعيد سبب التأخير إلى "انشغال الهيئة منذ إنشائها بوضع تشريعات ناظمة للقطاع على حساب طرح دعوات الاستثمار لتحسين القطاع".

بحسب المساعيد، "يساهم تملك أفراد لوسائط النقل بدلاً من الشركات إلى تدني مستوى الخدمات المقدمة"، ويؤكد أن "نهاية 2008 سيشهد توافر وسائط نقل حديثة على جميع الخطوط".

مسؤول سابق يرى أن هذه الهيئة "حملت مسؤوليات فاقت قدرتها وإمكانياتها لعدم توافر كادر مؤهل متخصص بالنقل لا سيما أنها لا تضم ضمن كوادرها مهندس نقل. كما أدى التنافس بين المؤسسات وتنصلها من مهامها إلى عرقلة عملها".

مشاكل القطاع

يقول المهندس عبدالستار أبو حسان، نائب رئيس الاتحاد العالمي للمواصلات العامة (UITP): «ليس بمقدور الجميع اقتناء سيارة خاصة بعد ارتفاع أسعار المحروقات. وعليه يجب توفير وسائل نقل آمنة، سهلة الاستخدام، مريحة، وذات تكلفة اقتصادية معقولة تتماشى مع متطلبات الحياة الحديثة».

يتوقع أبو حسّان «حدوث أزمة في 2020 نتيجة تزايد عدد سكان المناطق الحضرية في ظل دراسات رسمية تؤكد أن عدد سكان عمان سيتضاعف حتى العام 2020»، إلى أربعة ملايين نسمة.

في ضوء ذلك «ستزداد المعاناة من الازدحام، الحوادث، التلوث، وتتضاعف الخسارة الاقتصادية، وساعات الإنتاجية الضائعة في الأزمات المرورية»، بحسب أبو حسان.

من مشاكل النقل العام أيضاً كما يراها أبو حسان، «عدم الالتزام بالترددات والمواعيد وأثرها السلبي على زيادة التلوث نتيجة وقوف السيارات لمدة طويلة في الأزمات. هذا ينعكس على مستوى معيشة المواطنين نتيجة ارتفاع التكلفة والأجور».

المساعيد، يبرر عدم الالتزام بالتوقيت «بالازدحام المروري» الذي يعطّل الحافلة، إلى جانب ارتفاع التكلفة كون السير وفق مواعيد يضطر الحافلة إلى السير بعدد الركاب المتوافر بغض النظر عن حجم حمولة الحافلة.

مدير الشركة المتكاملة التي تتولى النقل في عمان مؤيد الطراونة يرى "اعتماد مبدأ التوقيت يحتاج إلى قاعدة بيانات غير متوفرة حاليا"، لكنه يرى أن "بدء استخدام البطاقة الذكية يمهد لتوفير المعلومات المطلوبة" لا سيما بما يتعلق بعدد الركاب على كل خط والذي يحدد التردد لكل رحلة.

ويؤكد أن "الشوارع المتوافرة حالياً مهيأة للعمل بالتوقيت والترددات" فالمطلوب بحسب الطراونة "تخصيص مسرب واحد" للحافلات، السرفيس، التاكسي، وسيارات الإسعاف والشرطة.

المسؤول ذاته "يشكك بإمكانيات الشركات المستثمرة في القطاع المالية والفنية" من ناحية قدرتها على النهوض بالقطاع.

الأثر السلبي لاستخدام السيارات الخاصة متعدد في بلد يتجاوز عدد المركبات فيه 800 ألف سيارة. إذ إن 95 بالمئة من عمر السيارات يضيع وهي متوقفة في مساحات يمكن أن تستغل بشكل أفضل، علماً بأن سيارة الموظف تستوعب مساحة تساوي مساحة مكتبه، وبما يعادل 20 متراً مربعاً، بحسب خبراء نقل.

الأثر البيئي

وزير البيئة خالد الإيراني يقول إن ضعف النقل العام «يؤدي إلى تقلص المساحة الخضراء نتيجة تخصيص مساحات للشوارع، إذ أن حافلة واحدة سعة 60 راكبا تحتاج إلى 36 متراً مربعاً من مساحة الطريق، بينما يحتاج 60 شخصا إلى 1000 متر مربع في حال استخدموا سياراتهم الخاصة».

بينما يؤكد أن «توافر قطاع نقل متطور مسألة شديدة الارتباط بالبيئة النظيفة»، يشرح الإيراني أن «تراجع القطاع يؤدي إلى استهلاك الوقود دون مبرر وزيادة التلوث».

تشير الدراسات إلى أن تكلفة الراكب من الوقود في السيارات الخاصة 5 أضعاف تكلفة الراكب في الحافلة. وكذلك كثافة الغازات السامة CO2 المنبعثة من السيارات تزيد ثلاثة أضعاف عن استخدام الحافلات.

ومن الأسباب الموجبة لتطوير النقل «الدمار الذي يسببه التلوث الناتج عن عوادم السيارات، والتلوث السمعي الذي يشكل خطورة بالغة على حياة الناس في المدينة».

إضافة إلى ما سبق، يدعو ما اصطلح على تسميته في الأردن "بالمجازر المرورية" إلى تحسين النقل. إذ شهدت المملكة مئات الحوادث المرورية التي تسببت بخسائر إنسانية ومادية على خطوط النقل الخارجي، وآلاف الحوادث على الخطوط الداخلية رغم أن النقل العام داخل المدينة يشكل أقل نسبة حوادث خطيرة.

إجراءات حكومية

النقص في عدد الحافلات وعدم وجود خطوط على بعض المناطق أمر يقلق المواطنين، ويستنزف وقتهم، ويدفعهم إلى تملك سيارة خاصة برغم ارتفاع التكلفة وتآكل مداخيلهم، بحسب مشتغلين في القطاع.

المساعيد الذي تسلم مهامه في نيسان/ ابريل 2006، يؤكد أن الاهتمام بهذه المشكلة بدأ منذ عامين حين باشرت الهيئة توقيع عقود استثمار لتجديد أسطول الحافلات. وستزود الهيئة السوق ب 150 حافلة جديدة قبل حزيران/ يونيو المقبل، كما تم طرح 116 حافلة من خلال الشركة المتكاملة للنقل.

وثمة دعوات مطروحة حالياً للاستثمار على خط السلط-عمان للاستغناء عن باصات الكوستر بعد شراء 33 حافلة جديدة. كما سيتم طرح 39 حافلة جديدة لتعزيز جميع الخطوط في مختلف المحافظات.

بالمجمل ستدخل السوق 600 واسطة نقل جديدة تتوزع بين الحافلات والكوستر.

يلفت المساعيد إلى «توافر وسائط نقل للتأجير تكفي احتياجات المملكة». وضرب مثلا على ذلك، توافر 263 حافلة لنقل الحجاج العام الماضي دون الحاجة إلى خروج باصات من الخطوط الداخلية في المملكة. يوجد في المملكة 17 شركة سياحية.

ولحفز الشركات على تطوير أسطولها قررت "إعفاء الوسائط المنتهي عمرها التشغيلي من الرسوم الجمركية وتخفيض الضريبة من 16 بالمئة إلى 7 بالمئة خاصة أن 30 بالمئة من وسائط النقل انتهى عمرها التشغيلي".

يبلغ العمر التشغيلي للحافلة 20 سنة والكوستر 15 سنة، ويوجد في الأردن 4273 سيارة سرفيس 75 بالمئة منها في عمان، كما يتوفر 5485 حافلة وكوستر، إلى جانب 14893 تاكسي منها 5ر10 ألف في العاصمة

القطار الخفيف بدأ الحديث عنه قبل عقد، وما زال لا يبرح مكانه نتيجة سياسات ترحيل القرارات الحكومية. يقول المساعيد عن هذا المشروع إن «القرار بخصوصه سيتخذ نهاية الأسبوع الجاري لاستكمال التعاقد مع الشركة الباكستانية الصينية.

تبلغ تكلفة المشروع 180 مليون دينار، بحسب تقرير الهيئة لعام 2007 الذي تعكف الهيئة على إعداده، ويخدم عمان والزرقاء اللتين يقطنهما 50 بالمئة من سكان المملكة.

مصادر مطلعة بينت ل«ے» أن الشركة الباكستانية حصلت على قرض تجمع بنكي محلي، واستقطبت شركة النور الكويتية لتدخل معها شريكاً في المشروع.

رؤية للارتقاء بالنقل العام

أبو حسان بدوره يقترح حلولا للارتقاء بالقطاع منها التكثيف العمراني والتطوير العمراني، وجعله بالقرب من محطات الحافلات والمراكز الاقتصادية(مجمع دوائر حكومية، مناطق صناعية) لتقليل تكاليف رحلات النقل العام، والتخفيف من الازدحام، كذلك يطالب بوضع سياسات مشددة حيال وقوف السيارات في وسط المدينة لتخفيف الأزمات المرورية، وتوفير مواقف للسيارات.

ولأهمية النقل في تنشيط القطاع السياحي يرى أبو حسان أن توفير نظام نقل عام متطور يقدم البلد بصورة حضارية، ويسهل على السياح الوصول إلى قبلتهم بسهولة ويسر، مما يتطلب توفير مواقف عامة، استخدام وسائط النقل العام، توفير محطات فرعية للباصات وأماكن وقوف عامة على أطراف المدينة إلى جانب توفير حافلات ذات خدمة سريعة وذات اعتمادية عالية لجذب عدد من ركاب الوسائل الأخرى مثل السرفيس ، التاكسي وحتى السيارات الخاصة.

يطالب أبو حسان أيضــــاً بإعطاء الأولوية والتسهيلات لوسائل النقل العــام (right of way) لزيادة الإيرادات والارتقاء بمستوى الخدمات للتسهيل على الراكب، وتوفير الوقت والجهد و المال من خلال تأمين حافلات ذات منسوب منخفض يعني سهولة الصعود والنزول وانسيابية الحركة.

كما يدعو أبو حسان إلى تقديم معاملة خاصة وبالذات في أوقات الذروة لمن يستخدمون نظام car pool (انتقال أكثر من شخص في سيارة خاصة واحدة) لتخفيض الكلف التشغيلية عليهم وتوفير الوقت والجهد، وتشجيع هذا السلوك في ظل ارتفاع أسعار المشتقات النفطية.

توسيع دائرة مستخدمي النقل العام يتطلب، بحسب أبو حسان "مراعاة الاستخدام السهل للمواصلات لجميع شرائح المجتمع" بخاصة كبار السن، وذوو الاحتياجات الخاصة، والسيدات، وعربات الأطفال.

يطالب أبو حسان بإنشاء هيئة جديدة تعنى بالنقل والمرور تتمتع باستقلال مالي لضمان سهولة المراقبة والإشراف والتنظيم من خلال سيطرتها على التخطيط العمراني والحضري لاستخدامات الأراضي، سياسات توفير مواقف للسيارات بالتوافق مع تحديد استخدام السيارات الخاصة والترويج الإعلامي الجيد لمزايا استخدام النقل العام.

المحاباة والتخبط أوصلا القطاع إلى طريق مسدودة :شبكة نقل عام ضرورة حتمية للتنمية والاستثمار
 
14-Feb-2008
 
العدد 13