العدد 13 - ثقافي
 

يوسف ضمرة

ما إن تنطلق كتابة جديدة في حقل أدبي ما، حتى نصاب بالدهشة، وتتملكنا الرغبة في الاكتشاف والدخول في التفاصيل، لأننا كبشر مجبولون بالتوق إلى ما لم يكن، وما لم نخبره ولم نراكم أي خيرة عنه. ولأننا مسكونون بولع الغامض والسري الذي لم نشهده في الكتابة السائدة.

حدث هذا في مراحل الأدب وتحولاته البنيوية والموضوعية كلها. ولكننا في العقود الأخيرة، وبخاصة منذ السبعينيات، وجدنا أنفسنا أمام موجات متلاحقة من التجارب الأدبية العالمية، التي تأخر نقلها إلى العربية، كالبنيوية، والرواية الفرنسية الجديدة، والواقعية السحرية، والأدب الياباني، والسرد الأفريقي. وكان آخر ما وصل إلينا من هذه الموجات، هو ما اصطلح على تسميته بالواقعية القذرة في السرد الأميركي المعاصر.

واللافت للنظر في هذه الموجات المتلاحقة، هو أن بعضها ظل قويا حيا متواصلا، كالسرد الياباني والواقعية السحرية. ولكن كثيراً من هذه الموجات تلاشت وتحطمت ـ كما يبدو ـ على صخرة التجربة السردية البشرية، وقوانينها المضمرة، على رغم كل ما يشاع عن عبثية القوانين في الكتابة. وهو ما يجعلنا نصفها بالمضمرة.

وإذا كانت بعض هذه الموجات الكتابية تكسرت تحت ضغط القوانين المضمرة، فإن بعضها تكسر كتسمية لم تكن تحمل في جوهرها ما يؤهلها لاكتساب تسمية جديدة، أو صفة مغايرة.

في الجهة الأولى، نضع أيدينا على الرواية الفرنسية الجديدة، أو رواية الضد، أو ضد الرواية، أو اللارواية، وما إلى ذلك من صفات طبعت مجموعة من أعمال الروائيين في الخمسينات والستينات، وعلى رأسهم الكاتب الشهير ألان روب غرييه.

فهنا لم تكن ثمة مشكلة في التسمية أو الصفة، بل يمكن القول إن هذه التسميات والصفات التي ألصقت بهذه الروايات، كانت ملائمة إلى حد كبير. ولكن المشكلة، كانت في هذه البنية الروائية الجديدة، وفي رؤية هؤلاء الروائيين إلى السرد الروائي، وفي العلاقة الملتبسة التي صاغتها هذه الرواية الجديدة بينها وبين القارئ. ولعل المثل الأكثر بروزا في هذا السياق، يتعين في رواية (غيرة) للكاتب ألان روب غرييه.

صحيح أن هنالك فرقاً بين النص والخطاب في العمل الروائي، ولكن الرواية الجديدة لم تتوقف عند هذا الفارق المهم، بل هي شكّلت ما يمكن تسميته بالقطيعة المعرفية بين الخطاب والنص. فإذا كان الخطاب في الرواية الكلاسيكية، والحديثة أيضاً، مشتقاً من النص أولا، فإن رواية الضد، لم تجعل للنص أي أهمية في تشكيل الخطاب، حيث لا يكتفي النص بحلميته أو حدوسه أو احتمالاته المتعددة، بل يتحول في هذه الرواية شبحا سرياً، يظهر فجأة ثم يختفي، إلى الحد الذي تشعر أحياناً بلا وجوده، وهو ربما ما تسبب في صفة اللارواية.

فالنص الروائي، أياً كان غموضه وغرائبيته، إلا أنه يظل محتفظاً بوجوده وبنيته الكلية المتماسكة، حتى في أكثر النصوص الروائية تشتتاً وتعدداً. ولكن اللارواية تنطوي على ذاتها وعلى نقيضها في وقت واحد. فهي موجودة وغير موجودة. كائنة وغير كائنة. ثمة حكاية ولا حكاية. ثمة شخوص ولا شخوص. ثمة ملامح ولا ملامح. ثمة حضور وغياب في الوقت عينه.

صحيح أن الغموض سمة أساسية في الحياة البشرية، ولكن هذه الرواية لا تكتفي بالغموض أو الغرائبي، بل هي تنفي ذاتها في كل مسار من مساراتها، وفي كل شخصية وواقعة. وعليه، ليس مستغربا أن يأفل نجمها سريعا كما بزغ. فهي لم تتمكن من بناء جسر ولو صغير بينها وبين المتلقي، الذي يعشق التأويل، ولكنه لا يتقبل فكرة النص المفتعل. فليس ثمة ما يبرر كل هذا الوصف في غيرة ألان روب غرييه، سوى التأثر بالصناعة السينمائية، بحيث يتحول النص سيناريو للقراءة، بينما الأصل أن تتم ترجمة السيناريو إلى مشاهد وصور متحركة. أما محاولة إقحام الغرائبي في النص، فهي مجرد تقليد باهت لعالم كافكا الثري والمتنوع والمتماسك، وقوي الإيحاء، في خلال الدلالات والرموز والعلامات والإشارات التي تأخذ القارئ من يده إلى أبواب عدة، قد لا تنتهي.

لم يقيض لرواية الضد أو اللارواية الفرنسية أن تتحول تياراً أدبياً عالمياً، فوصل قطارها إلى محطة لم تكن مقصودة في بداية الرحلة.

وإذا كانت رواية الضد الفرنسية، تستحق التسمية أو الصفات التي ألصقت بها، ولم تكن هذه الصفات سبباً في انفراط عقدها، فقد ظهر لنا أن الواقعية القذرة في الأدب الأميركي، لم تكن ملائمة كتسمية أو كصفة، ولم نجد ما يبررها سوى الرغبة في ابتكار مزيد من التسميات التي يبدو البعض مهووسا بها.

فروايات بول أوستر (أحلام المدينة البعيدة، وثلاثية نيويورك)، ورواية ريتشارد فورد (عاشق النساء)، وقصص رايموند كارفر كلها، لا تمت للقذارة الفنية أو الموضوعية بصلة. وهي واقعية حيناً، غرائبية حيناً آخر، بوليسية حيناً ثالثاً. كما أننا لا نعثر على قواسم فنية مشتركة بين هؤلاء الأقطاب الثلاثة، الذين أطلقت على إنتاجهم تسمية الواقعية القذرة.

فبينما يجنح بول أوستر إلى الغرائبية، ويعتمد التقنية البوليسية، كما ظهرت بوضوح في ثلاثية نيويورك، نجد ريتشارد فورد يكتب رواية واقعية بالمعنى التقليدي، تتناول علاقة رجل أميركي متزوج بامرأة فرنسية، بكل ما تنطوي عليه مثل هذه العلاقات من ازدواجية في المشاعر والسلوك. بينما يتكئ رايموند كارفر في قصصه كلها على ما هو يومي وعادي وما قد يبدو هامشياً ونمطياً في الحياة المعيشة، كالخلافات الزوجية، والإدمان، ومصائر أطفال الأزواج المشتبكين طوعاً في علاقة مركبة، من خلال مجتمع طافح بالمتناقضات والإشكاليات اللامتناهية. وربما يكون في توظيفه اللغة اليومية البسيطة، القريبة من المحكية، والمناسبة تماماً لموضوعاته وأحداثه وشخوصه، دور في إطلاق صفة الواقعية القذرة، أو إدراج اسمه في قائمتها.

وعلى أي حال، فقد ذهبت الرواية الجديدة، وتراجع الكثير من أصحابها عن أبوتها، ومنهم الكاتبة الكبيرة (مارغريت دورا) التي كتبت فيما بعد رائعتها الروائية(العاشق)، من دون أن تفكر في تسمية جديدة، أو صفة مغايرة تطلقها على كتابتها، سوى (رواية).

أما الواقعية القذرة، فلا نعرف أين أصبحت اليوم، وما إن كان ثمة أحد يتذكرها. ولكننا نعرف أن أحد أهم أقطابها (رايموند كارفر) رحل عن هذه الدنيا، وانتقل قطب ثان (بول أوستر) إلى السينما. وعلى الرغم من أننا لا ندعي إحاطتنا بالمشهد السردي الأميركي المعاصر، إلا أننا نكاد نجزم أن الواقعية القذرة، لم تكن سوى غيمة عابرة، كتسمية لا علاقة لها بالنصوص التي دمغتها.

في محيط الرواية: موجات سردية متكسرة
 
14-Feb-2008
 
العدد 13