العدد 13 - ثقافي
 

عواد علي

أهي الصدفة وحدها تجعل من ثلاثة أعمال فنية عربية (فيلم سينمائي و مسرحيتين)، عرضت متزامنة تقريباً، تدور أحداثها حول نساء يعشن في المنفى أو الغربة، أم هو نوع من توارد الخواطر، أم هي دلالة على بروز الوعي النسوي في الإبداع العربي، أم ثمة تعالق أو تناص بصيغة تحاذٍ، أي مجاورة وموازاة، بين تلك الأعمال مع محافظة كل عمل على هويته ووظيفته؟

الفيلم اسمه (الباحثات عن الحرية) للمخرجة المصرية إيناس الدغيدي، وأحد العرضين المسرحيين بعنوان (نساء في الحرب) للمخرج العراقي جواد الأسدي، والثاني بعنوان (تسعة أجزاء للرغبة) للأميركية- العراقية الأصل هيثر رفّو. وكانت المخرجة اللبنانية نضال الأشقر قد عرضت قبل سبع سنين مسرحية (ثلاث نساء طوال)، معدة عن نص مسرحي بالعنوان نفسه لأدوارد ألبي، فائز بجائزة بولتيزر لعام 1994، تتناول فيها تجربةً طويلةً لإمرأة كبيرة السن، مسلطةً الضوء على ثلاث مراحل من حياتها :شبابها، منتصف عمرها، وشيخوختها، فيبدو العرض كأنه يتحدث عن ثلاث نساء: واحدة في عقدها التاسع، رقيقة وأوتوقراطية، ولكنها مصابة بحالة زهايمر معتدلة. والثانية في الخمسين من العمر تحمل نظرة ساخرة تجاه الحياة، والثالثة في السادسة والعشرين، وهي تحت طائلة القانون بسبب عدم دفع المستحقات عليها. إنها تمتلك كل الثقة الذاتية بالنفس الشائعة بين الشباب. وعلى ذلك يترك هذا العرض، الذي امتاز بجرأته ومقاربته لقضايا نسوية وجنسية، تساؤلات معلقة من قبيل: هل النساء الثلاث يمثلن ثلاثة وجوه من محطات زمنية؟ هل أن القطار واحد؟ هل أن الاتجاه واحد؟ هل هن امرأة واحدة؟ .

لقد نبشت الأشقر من خلال هذا العرض، عميقاً في ذات المرأة ومشاكلها النفسية والوجودية، وأظهرت فيه الكثير من المسكوت عنه واللامفكَّر فيه، وتحديداً ما يتعلق بعالم المرأة...وليس من المستبعد أن يكون هذا العرض ، هو الأكثر تأثيراً في ظهور الأعمال الثلاثة التالية.

الباحثات عن الحرية

تدور أحداث فيلم الدغيدي، الذي كتب له السيناريو رفيق الصبان عن رواية (غابة من الشوك) (1989) للكاتبة السورية هدى الزين، حول ثلاث نساء عربيات مغتربات في باريس: الأولى صحفية لبنانية اسمها أمل، تعرضت للاغتصاب خلال الحرب الأهلية، واختطف مسلحون خطيبها، فهربت إلى باريس كى تخرج من كوابيسها، إلا أن المشاكل النفسية تلاحقها فتلجأ إلى الخمرة، وإقامة علاقات عابرة مع بعض الشبان. وتدفعها علاقتها مع زميلها الصحفي المصري، وصراعها مع الزعيم اللبناني اللاجيء فى فرنسا، والعامل فى تجارة السلاح و المخدرات ، تدريجاً إلى مواجهة نفسها والانحياز إلى إقامة علاقة مع زميلها. وحين يعثر الصحفي على خطيبها خلال مهمة في بيروت تقف حائرةً بينهما، أول الأمر، ثم تقرر العودة إلى لبنان بعد أن تقتل الزعيم. والثانية فنانة تشكيلية مصرية عانت من وصاية زوجها، الذي يشعر بالدونية أمامها، وتجاهله لموهبتها، فتحصل على منحة للدراسات العليا في فرنسا، وتتطلق منه، وترتبط بعلاقة صداقة مع الصحفية اللبنانية. والثالثة فتاة مغربية تهوى الغناء، وتهرب من قمع أهلها إلى باريس إثر اكتشافهم حبها لجارها لتقع فريسةً لرجل مغربي عجوز يأويها إلى بيته ويستغلها جنسياً، فتتصادم معه، بتأثير من صديقتيها اللبنانية والمصرية، وتغادر بيته لتعمل مطربةً فى أحد الملاهى الليلية، وحين يحاول صاحب الملهى أن يرغمها على ممارسة الدعارة ، تترك العمل وتلجأ إلى صاحب محل من أصول جزائرية كانت تميل إليه، وتبدأ معه حياةً جديدةً.

نساء في الحرب

تقدم أحداث مسرحية (نساء في الحرب) لجواد الأسدي دراما ثلاث نساء هاربات من جحيم الطغيان في بلادهن إلى عالم الحرية في الغرب، يجمعهن ملجأ صغير بألمانيا بانتظار انتهاء التحقيق معهن، وقبولهن لاجئات في ذلك البلد: الأولى (أمينة) فنانة مسرحية عراقية تعرضت للملاحقة والاضطهاد والاقتلاع من مسرحها وجمهورها، وعانت من سلوك زوجها البوهيمي الذي يعاشر نساءً أخريات، ثم يلفظهن بأنانية ذكورية متوحشة، من دون مراعاة لمشاعرها وإنسانيتها ورابطة الزواج التي تجمعهما في بيت واحد. وقد دفعتها مغامرة البحث عن الحرية إلى الهروب صوب بلدان شرقية كثيرة معرضة نفسها للعديد من المخاطر قبل أن تصل إلى ألمانيا، وتساق إلى مخيم لطالبي اللجوء. والثانية (مريم) فتاة فلسطينية ذات معاناة مركبة من الغربة والاقتلاع من الوطن، وغدر صديقها اللاجئ البوسني الذي أقام معها علاقة عابرة، وعنف جنود الاحتلال الذين جروها إلى الشارع، وعرّوها أمام والدها وسحقوا أنوثتها تاركين ورماً في ثديها، فلجأت إلى التعبد والصلوات للتخفيف عن رعبها وتمزقها وانكسارها النفسي. والثالثة (ريحانة) إمرأة جزائرية تعرضت للعسف والمضايقات والتحقيق في بلادها، وذبحوا زوجها، وقطّعوه في الشارع لأنه كان نزيهاً، ووقف ضد الظلم، فقررت أن تتمرد على مجتمع يجوّز ذبح الإنسان، ويغرق في بركة دماء كبيرة، وتكفر بأعرافه وقيمه ومحرماته الأخلاقية والاجتماعية بممارسة الجنس اعتقاداً منها بأن ذلك دلالة على التحرر والانطلاق، وتبحث عن زوج ألماني تنجب منه أولاداً جرمانيين تغسلهم من آثار اللغة العربية والعرب، وتكسر أمامهم سيوف تاريخهم، وتهزأ من فرسانهم. ولكنها تقع، في خضم ترميم ذاتها وتشكيل معالم حريتها، فريسةً للمنفى والعزلة والعلاقات السطحية العابرة.

وفي هذا المسار الوعر تتصادم الشخصيات تحت ضغط الظروف والمعاناة، ثم تصفو. صدام الشخصيات الثلاث عائد الى التيه والبعد عن الوطن، والمجهول، والمكابدة، أكثر مما هو عائد إلى خلاف حول معنى الوطن أو الحرب أو الأرض. ولهذا، بدا صدامهن كأنه الوجه الآخر للقاء عجيب، وشفافية عميقة، فمصيرهن واحد، ودرسهن واحد في هذه الجلجلة، والاختلاف بين الأمزجة ملون بالقدر والمجهول.

تسعة أجزاء للرغبة

يتألف عرض (تسعة أجزاء للرغبة)، وهو من نوع (One-Woman Show).

للكاتبة والممثلة العراقية- الأميركية هيثر رفّو، وإخراج جوانا سيتل، من سلسلة من المشاهد المسرحية لممثلة واحدة (رفّو نفسها) تؤدي مجموعة شخصيات نسائية عراقية في المنفى: واحدة شيوعية لاجئة تعيش في لندن، وثانية امرأة بدوية تحكي قصص حبها التعيسة، وثالثة شابة من أصل عراقي تجلس مذهولةً أمام التلفزيون، الذي يعرض مشاهد من الحرب، في حين تهتف هي بأسماء أقاربها، ورابعة بائعة متجولة عاجزة وحدباء تصف أعمال السلب والنهب فى بغداد، وخامسة رسامة بوهيمية جذابة تحكى كيف نجت من الكارثة، وهربت إلى الخارج، وسادسة مراهقة ترقص مع فرقة للبوب، وسابعة طبيبة حامل تتحدث عن حزنها على عدد الأطفال الذين ولدوا مشوهين نتيجة للحروب السابقة، وثامنة سيدة عجوز ترشد الزائرين فى أرجاء ما تبقى من ملجأ العامرية الذي كانت أسرتها من بين 400 شخص قتلوا فيه فى قصف أميركى عام 1991، وتاسعة هي شخصية الممثلة نفسها، بوصفها إمرأة تعيش خارج بلدها الاصلي.

إن رفوّ، التي أخذت عنوان المسرحية، كما تذكر، من نص تراثي يقول إن "الله خلق الرغبة الجنسية في عشرة أجزاء، ثم أعطى تسعة منها للمرأة، وأعطى الجزء العاشر للرجل"، تسكن في عزلة شخصياتها الحيوية المقهورة التي لا تختفي كلياً عندما تنتقل من واحدة إلى أخرى. وتبدو الأصوات التي تستخدمها مزيجاً من التناقضات: حيةً وخافتةً، متطورةً وساذجةً، مغريةً وفاترةً، لكنها تشكّل، من خلال ترابطها، صورةً جماعيةً قوية ً للمعاناة والمحنة. وعلى الرغم من أن المسرحيه ذات شكل تسجيلي مؤثر يسلط الضوء على حياة المرأة العراقية المعاصرة (قضت رفّو 11 عاماً في جمع مادتها الوثائقية)، فإن كل بورتريهاتها ممهورة بالحيوية، والتفاصيل التي لا تنسى، ومقياس الغنائية فيها مشروط بأدائها الآسر والفعال، الذي شكلته بدقة وحساسية المخرجة جوانا سيتل.

مصائر مشتركة

يُلاحَظ مما تَقدم أن أعمال كل من الدغيدي والأشقر والأسدي تشترك في كون أحداثها الدرامية تدور حول مصائر ثلاث شخصيات نسائية بالتحديد، وهو أمر لا يبدو من فعل المصادفة، أو محض توارد خواطر، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تزامن عرضها. وقد يحيلنا أيضاً إلى أعمال فنية وأدبية ظهرت خلال الأعوام الأخيرة، مثل فيلم (الساعات) الأميركي للمخرج ستيفن دالدراي، وتمثيل: نيكول كيدمان، وميريل ستريب، وجوليان مور، الذي يتناول حياة ثلاث نساء في ثلاثة أزمنة مختلفة: الأولى فرجينيا وولف، الكاتبة البريطانية التي عاشت حياةً مضطربةً عقلياً في بدايات القرن العشرين، مفضلةً الوحدة، وتركيز كل اهتمامها في الكتابة، وحاولت الهروب من زوجها غير المتكافئ معها فكرياً، لكنه يعيدها إلى البيت، فتصاب بكآبة شديدة تدفعها إلى الانتحار. والثانية ربة بيت بائسة ومحبطة تعيش، عام 1950، مع زوج يهملها، فتتقمص روح بطلة رواية فرجينيا وولف (السيدة دالواي)، وتتجسد لها في الحلم طريقتها في الانتحار، لكنها تصحو مذعورةً، وتعجز عن الإقدام على الانتحار. والثالثة امرأة معاصرة تعيسة، تعيش عام 2002، أصيب زوجها بمرض الإيدز، ويعيش الساعات الأخيرة من عمره، فتحاول أن تقيم له حفلة وداع. وهي تفكر، أيضا،ً بالانتحار الذي يتراءى لها في الحلم، فتستيقظ مذعورةً..

وفي كتاب (ثلاث نساء من هيرات) تصف المؤلفة الأميركية فيرونيكا دبلداي حياة ثلاث نساء عاديات في مدينة هيرات الأفغانية في سنوات السبعينات، مسلطةً الضوء، من خلالهن، على واقع المرأة في هذا البلد، وتكشف عن مكانة الموسيقى في المجتمع الأفغاني وطموح الناس العاديين إلى حياة لائقة قبل أن يأتي حكم طالبان السلفي المتخلف، ويشن أبشع حرب في التاريخ على المرأة.

وإذا استبعدت هذا الكتاب عن دائرة التعالق بين الأعمال المسرحية والسينمائية التي وقفت عليها، كونه غير مترجم إلى العربية، فإن التصور الأخير الذي يتشكل في ذهني هو وجود آلية من التناص خلقت إطاراً من التقابل والتشارك بين تلك الأعمال في بعض عناصرها البنائية والإيحائية. ولعل استقراءً عميقاً يسبر أغوارها يكشف عن مفاصل هذه الآلية من التناص واستراتيجيتها التأويلية، بما يعزز فرضية أن كل عمل إبداعي ، هو مزيج من تراكمات سابقة خضعت للانتقاء ثم التأليف..

تناصّات مسرحية- سينمائية: نساء الشرق في دائرة البحث عن المصير
 
14-Feb-2008
 
العدد 13