العدد 13 - حريات
 

أنشأت بعض دول العالم محاكم خاصة بمراقبة مدى انسجام القوانين والتشريعات مع أحكام ومقتضيات الدستور، باعتبار ذلك وسيلة إضافية لحماية دستور الدولة، وحماية الحياة الديمقراطية التي يضمنها الدستور من أي تجاوزات عليها.

فقد نص دستور الولايات المتحدة الأميركية، وهو أقدم دستور يستمر العمل به في العالم، على وجود "المحكمة الدستورية العليا" التي تناط بها السلطة القضائية ومعها عدد من المحاكم الأدنى منها درجة، كما أنشأت ألمانيا "المحكمة الدستورية الاتحادية" في العام 1949، وأسست فرنسا محكمتها الدستورية في العام 1958 ضمن مجموعة ترتيبات قانونية وقضائية أجراها الرئيس شارل ديغول إبان فترة الثورة الجزائرية.

وقد أسست بعض الدول العربية مثل هذه المحاكم، فأنشأت الكويت "المحكمة الدستورية" في العام 1973، ومصر "المحكمة الدستورية العليا" في العام 1979، وأنشأت المغرب "المجلس الدستوري" في العام 1992.

في الأردن، لم تتأسس محكمة دستورية رغم أن الميثاق الوطني الصادر عام 1991 كان دعا لإنشاء مثل هذه المحكمة، وكذلك رغم أن وثيقة "الأردن أولاً" الصادرة عام 2002 تضمنت نصاً يدعو لـ"دراسة إمكانية إنشاء المحكمة الدستورية في الوقت المناسب"، فقد ضمت لجان "الأردن أولاً" لجنة خاصة بدراسة موضوع هذه المحكمة، خلُصت للقول في تقريرها النهائي إنه "بعد دراسة معمقة لحقيقة الأوضاع القانونية والدستورية في المملكة (نجد) أنه لا مبرر حالياً لإنشاء محكمة دستورية، وأن الضرورات غير ملحة لإنشائها". وكان مما قيل يومها أن تلك التوصية كانت بمثابة "التخريجة" السياسية لعدم رغبة الحكومة في وجود محكمة كهذه، وللتخلص من "ورطة" النص على هذه المحكمة في وثيقة "الأردن أولاً".

بين فترة وأخرى، تشهد البلاد جدلاً حول الحاجة لتأسيس محكمة دستورية وجدواها، من عدمهما، يشارك فيه متخصصون قانونيون، ونشطاء في السياسة والمجتمع المدني، ومدافعون عن حقوق الإنسان. وينقسم هؤلاء بين فريق يدعو لإنشاء محكمة تنظر في مواءمة القوانين مع أحكام الدستور، وآخر يدفع بعدم حاجة الأردن لها موضوعياً.

في سياق رفضه لإنشاء محكمة دستورية في الأردن حالياً، يقول المحامي هاني الدحلة، رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان- فرع الأردن، إنه ليس هناك ضمانات لاستقلال هذه المحكمة عن الحكومة، ما سيجعلها وسيلة لإعطاء صفة دستورية لقرارات حكومية خاطئة، بخاصة إذا كان أعضاؤها سياسيين كبار سابقين، وبالتالي فإن وجودها لن يحقق مصلحة المواطن الأردني، وستكون نتائجها على عكس المرجو منها.

الفريق الرافض لإنشاء محكمة دستورية يحشد مجموعة من الحجج لتبرير وجهة نظره، هي:

- أن المحكمة الدستورية لا تكون عادة جزءاً من السلطة القضائية بحيث يتقاضى فيها من يشاء من المواطنين، بل تتأسس بقرار سياسي، فيكون من أعضائها رجال سياسة ورجال قضاء، وهكذا تكون مستقلة عن السلطة القضائية، ففي فرنسا مثلاً تتشكل المحكمة الدستورية برئاسة رئيس الجمهورية، وعضوية رؤساء الجمهورية السابقين، وتسعة أعضاء يختار كل من رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ ثلاثة منهم. أما في مصر فيُعين أعضاء المحكمة بقرار من رئيس الجمهورية على أن يكون ثلثاهم من القضاة. وفي المغرب يتألف المجلس الدستوري من اثني عشر عضواً، يعين الملك ستة منهم لمدة تسع سنوات، أما الستة الآخرون فيعين رئيس مجلس النواب ثلاثة منهم، ويعين رئيس مجلس المستشارين الثلاثة الباقين، على أن يتم تجديد ثلث هؤلاء الستة كل ثلاث سنوات.

- أن المحكمة الدستورية في هذه الحالة، تنظر القضايا المحالة إليها من رئيس الجمهورية (في فرنسا)، ومن المحاكم العادية (في مصر)، ولا يحق للأفراد أو المؤسسات المدنية الطعن بدستورية القوانين أمامها مباشرة. وهكذا فإن وجود المحكمة الدستورية في الأردن لن يُعطي أي ميزة للمواطنين أو المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، في مواجهة ما قد يعتبرونه مخالفاً للدستور أو لمقتضيات الحياة الديمقراطية، من قوانين وقرارات صادرة عن أي من السلطات.

- أن وجود "محكمة العدل العليا" في الأردن يفي بالغرض تماماً، إذ إن لها سلطة إلغاء القرارات إذا ما استندت لقانون لا يتفق مع مقتضيات الدستور، وكذلك وقف العمل بالقوانين المؤقتة المخالفة للدستور، ويمكن للمواطن أن يرفع دعوى أمامها مباشرة في حال كان متضرراً من أحد القوانين المخالفة للدستور. والمثال الشهير على هذه الحالة هو القضية التي رُفعت في العام 1998 ضد قانون المطبوعات والنشر المؤقت رقم 27 لعام 1997، إذ قررت محكمة العدل وقف العمل به لعدم دستوريته، حيث لم يتوافر ما يستوجب قيام الحكومة بإصدار قانون مؤقت وفق الحالات الخاصة التي يتيحها لها الدستور. كما أن في الأردن "المجلس العالي لتفسير الدستور" الذي يمكن أن يقوم بمهام شبيهة إذا ما بدا أن نصاً قانونياً غير متفق مع الدستور، ويتكون هذا المجلس برئاسة رئيس مجلس الأعيان، وعضوية ثلاثة أعيان ينتخبهم مجلس الأعيان، وخمسة قضاة أعضاء في أعلى محكمة.

- أن من صلاحيات المحاكم كافة في الأردن، مهما كانت درجتها، مراقبة دستورية القوانين في أثناء نظرها الدعاوى المرفوعة أمامها، في حال أثار أحد المتخاصمين في قضية ما عدم دستورية نص قانوني يجري الاحتكام إليه، فإذا رأت المحكمة أن النص القانوني غير دستوري، فإن لها تقرير عدم تطبيقه على القضية التي تنظرها.

- أن وجود محكمة دستورية، عادة ما يؤدي إلى تأخير فصل المحاكم في القضايا التي تنظرها، ما ينعكس سلبياً على مصالح المواطنين. ففي الدول التي يوجد فيها محاكم دستورية، قد يلجأ أحد طرفي قضية ما للطعن بعدم دستورية نص قانوني يتعلق بالقضية المنظورة. حينها، يكون على المحكمة وقف السير في إجراءات القضية، وإحالة الطعن إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه، وهو ما يؤدي إلى تراكم القضايا أمام المحكمة الدستورية، وتأخير إجراءات التقاضي أمام المحاكم كافة.

- أن إنشاء محكمة دستورية في الأردن، يعد بذاته أمراً غير دستوري، إذ لا يوجد نص دستوري يعطي الصلاحية لأي محكمة بإلغاء أو وقف العمل بأي نص قانوني، وأن هكذا إلغاء أو وقف سيكون تجاوزاً على صلاحيات السلطة التشريعية التي يُناط بها إصدار القوانين، ما يتعارض مع مبدأ فصل السلطات.

- أن تجاوز القاضي على السلطات الأخرى، في حال عدم مراعاة مبدأ الفصل بين السلطات، قد يجره إلى التدخل في القضايا السياسية، ما يجرح نزاهة القضاء وحياده.

- أن فكرة الرقابة على دستورية القوانين لا قيمة لها، إذا أرادت الحكومة التجاوز على المبادئ الديمقراطية، إذ ستعمد حينها أيضاً إلى السيطرة على المحكمة الدستورية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والتدخل في قراراتها. وهو ما يفاقم حالة الديمقراطية الشكلية التي تدعيها الحكومة لتضليل الرأي العام المحلي والدولي.

في المقابل، فإن الفريق الذي يتبنى الدعوة لإنشاء محكمة دستورية أردنية، لا يرى مبرراً لعدم إنشائها، إذ يقول الدكتور سليمان صويص، الناشط الحقوقي ومؤسس الجمعية الأردنية لحقوق الإنسان، إن وجود المحكمة كان سيمنع تمرير الكثير من القوانين التي تتعارض مع الدستور، وبخاصة تلك المتعلقة بالحريات العامة. ويؤكد صويص أن المحكمة لا بد أن تتشكل من شخصيات معروفة بنزاهتها وثقافتها القانونية العميقة، حتى لو كانت شخصيات سياسية سابقة، وهو ما سيضمن استقلالها ويمنع توظيفها من أي جهة بما يتعارض مع مصالح المواطنين وحرياتهم. ويقدم الفريق المنادي بوجود المحكمة الدستورية عدة مبررات تدعم وجاهة دعوته، هي:

- أن الرقابة على دستورية القوانين والقرارات، أياً كان شكلها، تمثل حارساً للحدود الدستورية، وهي بالتالي ضمانة هامة لحماية الحريات العامة والحياة الديمقراطية. ووجود المحكمة الدستورية يسد فراغاً يشكو منه كثير من الداعين لدولة القانون.

- أن القول بتجاوز المحكمة الدستورية على مبدأ فصل السلطات، ليس صحيحاً، لأن الدستور أعلى من كل السلطات، وهو الذي يُقيدها، لأنه هو الذي أنشأها وأعطاها صلاحياتها، ما يعني أن على السلطات كافة الخضوع لأحكام الدستور أخذاً بقاعدة خضوع الأدنى للأسمى شكلاً وموضوعاً.

- أن صلاحيات المحاكم بمراقبة دستورية القوانين في أثناء نظرها الدعاوى المرفوعة أمامها، لا تمنع استمرار العمل في النص القانوني المخالف للدستور، حتى في حال عدم الأخذ به في القضية المنظورة، إذ يظل تطبيقه ممكناً في قضية أخرى، وخاصة أنه ليس للأحكام القضائية في الأردن قوة القانون.

- أن عدم وجود نص دستوري يمكّن من إنشاء المحكمة الدستورية، لا يعد عائقاً كبيراً أمام إنشائها فعلاً، إذ يمكن تعديل الدستور لإتاحة المجال أمام وجود المحكمة، وقد عُدّل دستور الممكلة (الصادر عام 1952) عشر مرات حتى الآن، في تواريخ: 7/4/1954، 16/10/1955، 4/5/1958، 1/9/1958، 16/2/1960، 1/4/1965، 8/4/1973، 10/11/1974، 19/1/1984، 17/4/1984. ما يعني أن تعديل الدستور ليس صعباً إذا ما دعت الحاجة.

- أن وجود المحكمة الدستورية، يمكن أن يقيد لجوء الحكومة لإصدار قوانين مؤقتة في فترات غياب مجلس النواب، وهو الأمر الذي شاع في سلوك الحكومات خلال السنوات الأخيرة، وعدّه نشطاء وقانونيون غير مشمول في حالات الضرورة التي يتيحها الدستور للحكومة لإصدار هكذا قوانين.

الكويت ومصر والمغرب اعتمدتها.. إنشاء محكمة دستورية أردنية: بين حماية الحريات وتمرير قوانين تُقيّدها
 
14-Feb-2008
 
العدد 13