العدد 12 - اقليمي
 

محمد المصري*

على الأهمية البالغة لدور حبش في السياسة الفلسطينية وعلى صعيد الصراع مع إسرائيل، إلا أن «الحكيم» لعب دوراً بالغ الأهمية في حركة التحرر العربي وفي التحولات السياسية في المنطقة العربية. ذلك أن التكوين السياسي والإيدولوجي لجورج حبش وتحولاته خلال العقود الخمسة الماضية كان ردة فعل مباشرة للنكبة ، إلا أنه لم يكن محدوداً في الإطار الفلسطيني. فمشروعه السياسي ارتكز على الفكر القومي الحزبي، وكانت جهوده الأولى ورفاقه في الجامعة الأميركية ببيروت ترتكز على مبدأين متداخلين: المبدأ الأول أن الوحدة العربية هي الخيار التاريخي لشعوب المنطقة العربية، أما الثاني فإن تحرير فلسطين هي المهمة الرئيسية للحركة القومية العربية. وبقي هذان المبدآن أساسيين في صياغة التوجهات السياسية والإيدولوجية لحركة القوميين العرب وتحولاتها التنظيمية لفترات لاحقة. منذ بدايات العمل السياسي لحبش ورفاقه كان هنالك تمايز لحركة القوميين العرب (حتى قبل تسميتها رسمياً بهذا الاسم) عن باقي التيارات القومية، حيث يمكن اعتبار حبش ورفاقه المؤسسين الفعليين لحركة قومية عربية يسارية قبل ظهور ناصر في مصر وقبل التحولات اليسارية لحزب البعث. فلقد حدد حبش منذ عام 1952 بأن التحالف مع قوى الاستعمار الغربي (الإمبريالية) مرفوض من حيث المبدأ لدور هذا الاستعمار في تجزئة المنطقة العربية. وبذلك لم تكن الوحدة العربية بين دولتين إحداهما تقع تحت النفوذ الغربي غاية لحركة القوميين العرب. وكان حبش من الأوائل الذين أكدوا على أن المنطقة العربية يجب أن تتبع سياسة الحياد بين المعسكر الأميركي والسوفييتي. ولم تكن ساحة العمل السياسي والتنظيمي لحبش ورفاقه محصورة في القطاعات الفلسطينية بل أن الفضل يعود لحبش ورفاقه منذ بدايات عملهم في توسيع نطاق الحركة لتشمل منطقة المشرق العربي، وقد تكون هي الحركة الأولى التي نقلت الأفكار القومية في إطارها التنظيمي إلى منطقة الخليج واليمن، عاملة على تأسيس تنظيمات تعمل على مقاومة النفوذ الاستعماري وتحقيق الوحدة العربية ومقابل النجاح الذي حققته الحركة في الخليج، اليمن، العراق والأردن لم تفلح الحركة ببناء إطار تنظيمي في دول المغرب العربي رغم محاولاتها المتعددة.

إضافة إلى تأسيس التيار اليساري في الحركة القومية العربية، وإضفاء البعد العربي على القضية الفلسطينية ، فإن الحركة كانت منذ بداياتها تقبل بخصوصية الدول التي تنشط في داخلها، فبرنامجها السياسي في الكويت ارتكز على مجموعة من التحالفات للحد من النفوذ البريطاني والحصول على مكاسب دستورية للمواطنين الكويتيين، وكان الهدف الأساسي في لبنان هو جعل الفكر القومي العربي قوة توحيد للمسلمين والمسيحيين، فيما كان إنهاء النفوذ البريطاني وتعريب قيادة الجيش العربي هي النقاط البرنامجية الأساسية للحركة في الأردن. وأصبحت حرب العصابات هي الأسلوب المتبع للحركة في جنوب اليمن. فيما تصدر تحقيق الوحدة العربية برنامج العمل السياسي في العراق تحت حكم قاسم وعارف.

واتبعت الحركة أسلوباً تنظيمياً جديداُ في عملها في الشارع العربي، يتسم بالتعامل مع حاجات المواطنين ، فقبيل قيام الحركة في ترشيح قياداتها للانتخابات النيابية في الأردن عام 1956 ومن ضمنهم جورج حبش الذي ترشح عن عمان، قام كل من حبش ووديع حداد بفتح عيادة طبية عرفت بالعيادة الشعبية لتركيزها على علاج الفقراء. ومن هنا اكتسب حبش لقب «الحكيم». وبتأسيس المنتدى العربي في عمان والذي كان يقوم بالإضافة إلى الحوارات السياسية بتقديم دروس محو الأمية وببرامج اجتماعية عدة تساعد الفقراء. كما أن الحركة أسست علاقة حميمة مع «مؤتمر عمان» وهو إطار فكري قومي عربي تأسس في أعقاب النكبة بقيادة حمد الفرحان. واستخدمت أساليب متقاربة في لبنان بالسيطرة على جميعه “العروة الوثقى”، و تأسيس المنتدى الثقافي العربي في بغداد والنادي الثقافي الذي لم يلبث ان تحول الى نادي الاستقلال في الكويت. كما اصدرت الحركة صحفاً أسبوعية وبدأت بـ “الرأي” في عمان والتي انتقلت إلى دمشق و “الثأر” ثم “الحرية” في بيروت و“الطليعة” في الكويت.

ورغم أن الحركة استخدمت حرب العصابات وامتزج نشاطها السياسي ببعض المحاولات لبناء تنظيمات شبه عسكرية قبل ميلاد الجبهة الشعبية، إلا أنها لم تنخرط كما كان سائداً في فترة الخمسينات والستينات بالعمل على تأسيس خلايا في الأجهزة العسكرية أو الانخراط في محاولات انقلابية كما هو حال كثير من التنظيمات العربية. ويمكن اعتبار تجربة حركة القوميين العرب والتحولات السياسية والفكرية التي طرأت عليها نموذجاً لكثير من الحركات القومية التي شهدت حواراً داخلياً ساخناً ، وصراعاً أيدولوجياً مستمراً على المفاهيم الأساسية للحركة من قبيل تحولها إلى الماركسية دون تراجع لبعدها القومي حيث تواءمت الماركسية مع الفكر القومي دون أن تحل مكانه.

* باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية

الجامعة الأردنية

ريادة قومية سابقة على الناصرية والبعث
 
07-Feb-2008
 
العدد 12