شهدت السنوات الأخيرة في الأردن ظاهرة الإغلاق المتتابع لصالات العرض السينمائي الجماهيرية، سواء منها الصالات الراقية التي افتتحت منذ نحو عقدين من الزمن، مثل صالة «فيلادلفيا» الفخمة و«الكونكورد» أو صالات السينما التي يعود تاريخ ميلادها لأكثر من خمسين عاما. وقيل ان من الأسباب الرئيسية لذلك ضعف الإقبال على صالات السينما بسبب انتشار الفضائيات ورواج توزيع الأفلام المسجلة على أشرطة الفيديو. وبدا الأمر في حينه بمثابة إعلان نعي لصالات السينما العامة لا يتبعه شكر للمعزين على مواساتهم. غير أن الأمور سرعان ما انقلبت مع ظهور ظاهرة جديدة مفاجئة تمثلت في إنشاء متزايد متتال لصالات سينما جديدة موزعة بشكل خاص في الأحياء الراقية من العاصمة عمان ولا يستبعد أن يمتد انتشار عدوى هذه إلى بقية المدن الأردنية، وهذا ما يبشر به الإعلان عن قرب افتتاح مجموعة من صالات السينما الجديدة في «العقبة».

فهل أن تزايد أعداد صالات السينما الجديدة في الأردن سيكون الحل السحري لأزمة الإقبال الجماهيري على حضور الأفلام في صالات السينما العامة تحديدا، وهل سيكون هذا الأمر مجرد استثمار تجاري في حقل ترفيهي شعبي، أم انه سيساعد على جعل عملية ارتياد دور العرض السينمائية نشاطا اجتماعيا ملموسا، ناهيك عن إمكانية أن يكون ارتياد صالات السينما نشاطا ثقافيا؟

لقد ساهمت عوامل متنوعة في ضعف الإقبال على دور العرض السينمائية، منها أنه خلال السنوات أو العقود السالفة كان عدد صالات السينما، غير كاف ولا يستوعب النمو المتزايد في أعداد السكان ولا يستوعب ضخامة حجم الإنتاج السينمائي العالمي وحجم استيرادها ، كما ان أماكن تواجد دور العرض السينمائية ظل يقتصر على مراكز المدن وليس الأطراف، في وقت اتسعت فيه مساحة المدن ولم يعد التنقل بين أرجائها سهلا. وبسبب ضعف الإقبال على مشاهدة الأفلام لم يعد أصحاب الصالات يهتمون بتحديثها فتحولت صالات السينما القديمة إلى صالات من الدرجة الثانية أو الثالثة سواء من حيث المعدات والتجهيزات أو من حيث مستوى ونوعية الأفلام التي تعرضها.

إن ارتياد صالات السينما، بشكل عام، عادة اجتماعية. ولكنها عادة تحتاج إلى تنميتها وتشجيعها عن طريق إيجاد حوافز تدفع الناس، بالدرجة الأولى، للتعود على ارتياد صالات السينما بغض النظر عن مدى جذب فيلم معين لهم لمشاهدته.

واحد من الأسباب التي تؤدي إلى الفشل في تكوين الجمهور يكمن في عدم تحديد ماهية الجمهور وفي غياب التخطيط المناسب بالنسبة لعروض الأفلام سواء من حيث اختيارها أو من حيث برمجتها وفق دراسة واعية لطبيعة الجمهور الخاص بكل نوع من الأفلام. كما أن هذا الأمر يرتبط بتحديد الهوية الخاصة بكل صالة سينما على حدة بما يساعد على تحديد جمهورها بحيث يعتاد الجمهور على ان لكل سينما سياستها الخاصة التي تجعلها تعرض أفلاما من نوعية معينة تتلاءم أو تناسب أذواقا محددة أو فئات اجتماعية محددة.

وتكتسب هذه الناحية بعداً أشمل عندما تصبح عملية اختيار وبرمجة الأفلام معزولة عن الواقع الاجتماعي والنفسي والثقافي المحلي، أي بشكل عام ، عندما تتجاهل البرمجة الخصائص المختلفة للجمهور المحلي والتي تحدد أذواقه واهتماماته السينمائية، بحيث أن اختيار وبرمجة الأفلام في دور العرض تعكس نوعا من الاغتراب عن الواقع المحلي والتبعية العمياء للواقع غير المحلي (هذا إن لم نقل للموزع الأجنبي). وينطبق هذا بشكل خاص على عرض وبرمجة عرض الأفلام الأجنبية، وهي على الأغلب، أميركية. فقد يراهن الموزع المحلي على فيلم أميركي ما بسبب حجم الإيرادات التي حققها ذلك الفيلم عند عرضه في أميركا وكأنه من تحصيل الحاصل ان يحقق الفيلم النجاح نفسة عند عرضه محليا، فيتفاجأ عندما يكتشف ان رهانه كان خاسراً وأن الفيلم فشل في جذب الجمهور إليه.

الفيلم السينمائي سلعة مثل أية سلعة أخرى، ولكنه يتميز بكونه سلعة ذات بعد ثقافي فني وبكونه يرتبط، لا بالاستهلاك الفردي بل بالتفاعل الجماعي. وهكذا يتضح أن مجرد بناء صالات جديدة، ومع أهمية وضرورة ذلك، يبقى حلاً ناقصاً وأحادي الجانب، والاكتفاء به يعكس قصوراً في الوعي بحقيقة المشكلة. ذلك أن عدد صالات السينما وحجم توزيعها في الأحياء وتحديث تجهيزاتها،على أهمية ذلك، جزء من المشكلة يرتبط بالناحية الاقتصادية التجارية البحتة، في حين أن الجزء الثاني من المشكلة، وهو على غاية من الأهمية، ذو طابع ثقافي حضاري واجتماعي. وبدون فهم العلاقة الوطيدة المتبادلة ما بين الجانبين تبقى الأزمة على حالها.

في الماضي، كانت صالات السينما في الأردن، وفي عمان بخاصة، تستقطب روادا من مختلف الفئات الاجتماعية والأجيال، تستوي في تلك الميزة الصالات المتوفرة في الأحياء السكنية، مثل صالة سينما «الرينبو» في جبل عمان أو صالة «الفيومي»، والتي أصبحت لاحقا تدعى «الخيام» الواقعة في أحضان جبل اللويبدة الهادئ والصالات الأكثر شعبية الموزعة في أنحاء وسط البلد. أما في الوقت الحاضر فالجمهور شبابي مراهق بالدرجة الأولى، وأجنبي، بالدرجة الثانية.

في الماضي، كانت صالات السينما تقام في الأحياء السكنية وفي الشوارع المكتظة بالبشر، في الوقت الحاضر تقام صالات السينما في المجمعات التجارية وفي الفنادق الراقية.

في الماضي أيضا، كانت صالات السينما تعرض أفلاما متنوعة الجنسيات والمستويات الفنية والثقافية، فإلى جانب الأفلام العربية والهندية والأميركية الموجهة للجماهير العريضة كان يمكن لهواة السينما الراقية مشاهدة أفلام للإيطالي فيلليني، مثل فيلمه الشهير والصعب وغير التجاري التوجه «ثمانية ونصف» والذي عرض في أكثر من صالة سينما شعبية في وسط البلد، أو كذلك فيلم المخرج الفرنسي آلان رينيه «هيروشيما حبيبتي» غير الجماهيري في موضوعه، الراقي فنيا والعميق فكريا، والذي عرض أيضا في صالة شعبية في وسط البلد، ولم يكن غريبا في حينه أن يشاهد جمهور السينما الأردني الفيلم الجزائري «رياح الأوراس» للمخرج الأخضر حامينا، إضافة إلى أفلام أخرى كثيرة متنوعة لا مجال لحصرها هنا. الأفلام المعروضة في صالات السينما الحديثة في الوقت الحاضر، هي إما مصرية أو أميركية لا غير. والفرصة الوحيدة المتاحة أمام هواة السينما الراقية لمشاهدة أفلام متنوعة في صالات السينما تقتصر على العروض الخاصة والأسابيع السينمائية التي تشرف على إقامتها مؤسسات ثقافية أردنية مثل مؤسسة عبد الحميد شومان، أو الدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى، أو الأسابيع السينمائية الأوروبية وغيرها، التي باتت تقام سنويا وبانتظام.