العدد 78 - كاتب / قارئ | ||||||||||||||
قضية فلسطين من أقدم قضايا العالم غير المحلولة. وليس من أحدٍ، أكان عربياً أم مسلماً، حاكماً أم محكوماً، لم تشكل هذه القضية خنجراً مغروزاً في خاصرته، أو شوكة في حلقه حتى نغصت عليه أيامه ولياليه، صبحه ومساءه، طفولته وشبابه، كهولته وشيخوخته. ولأنها قضية غير قابلة للحل إلا بالحرب وحدها التي لا تنتهي إلا بطرف واحد غالب وإلى الأبد على أرضها -اليهودي أو العربي– فإنها ستطول وتطول، لأنها باختصار طبخة كَثُرَ طباخوها، ولكلٍّ رأيه واجتهاده، وطريقته وذوقه. ولأنها غير قابلة للحل، وستطول، علينا أن نفكر جيداً وجدياً في نسيانها، وذلك بأن نكف عن فعل ما نفعل، وأن نفعل ما لا نفعل. لأن ما فعلناه حتى الآن لم يأت بنتيجة، ومن الغباء الاستمرار في رفع الصخرة حتى نصل إلى القمة، فتقع فنعود إلى حملها، وهكذا دواليك على طريقة منكود الحظ سيزيف. علينا أن نكف عن ترك أعمالنا وأشغالنا في سبيل قضية محروقة، عن التبرع بالمال والنفس في إعداد الجيوش التي ستحارب، عن فتح معسكرات التدريب لملايين المتطوعين من العرب والمسلمين، عن الحديث ليل نهار عن القضية، وعن الثورة والديمقراطية والكرامة والتغيير الاجتماعي نحو عدالة أكبر، وعن إعطاء المرأة حقوقها التي تكفل علاقة شراكة سليمة مع الرجل. علينا أن نتوقف عن الحديث عن الاستعداد للحرب والنضال والسلاح، والتنظير لما بعد التحرير الوشيك الذي فرّغنا ونفرّغ كل أوقاتنا له، وكرّسنا له كل جهودنا ليلا ونهارا. لننظر إلى أنفسنا، أما أهلكتنا الجهود الذي نبذلها في سبيل القضية؛ أجسامنا نحيفة، هزيلة، لأننا كثيرو الصوم قليلو النوم، حياتنا على الثغور، أتعبت قبضاتنا البنادق، ورسمَ الشوك على أجسادنا خرائطه الموجعة، ونحن نزحف تدربا وتدريبا بانتظار ساعة الصفر. رحمة بأجسادنا وأرواحنا ومعنوياتنا، لأن كثرة الشد ترخي. كفانا هوسا بالنضال والتغيير والمقاومة والتحرير الذي نمارسه وننسى سواه. ألا يقول الله تعالى: «ولا تنس نصيبك من الدنيا»، فلماذا نذبح أنفسنا في سبيل الجهاد والاستشهاد؟!. وحيث أننا سنكف عن كل ما نفعله، فماذا نفعل إذن بكل الوقت والجهد والمال والصحة التي سنرفل في أثوابها الفضفاضة، وستتوفر لدينا وفرة فاحشة؟. علينا أن نسارع إلى العمل، فهناك مئات الآلاف من الوظائف الشاغرة المعطّلة بانتظارنا، بعد أن انصرفنا عنها لنقاوم ونقاتل، ونستعيد أرضنا المحتلة. علينا أن نكتب عن الحب والجمال، وننشر مجلات، وننشئ قنوات فضائية ومواقع إنترنت لا هَمّ لها إلا المرأة والحب والعشق والغرام والجسد العاري؛ رباه كم تقشّفنا طوال عمر القضية، حنانيكم، فقد أزف وقت الالتفات إلى شهوات الجسد وتطلعاته؛ كفانا كبتا، فقد انحرف سلوكنا بسبب ثنائية المقاومة والكبت، واسألوا فرويد إن كنتم لا تعلمون. لنتزوج وننجب الأطفال، فقد انقطع نسلنا، حتى صرنا أقل الأمم عددا، وأكثرها بركة؛ شبعنا بركات، وحان موعد التناسل، فالخير كثير والفقر قليل، ومستويات دخل الفرد الحقيقي في بلادنا من أعلى المستويات في العالم. علينا أن نجتمع في مؤتمرات تكلف الملايين، نغمرها بالورود وزجاجات «البيرييه» للتعارف، فلهذا خلقنا الله شعوبا وقبائل، فلِمَ نحيد عن سنن الكون؟!. لنتوقف عن الانتماء لقضية فلسطين التي تجعلنا نتمسك بالوحدة العربية والإسلامية، وتجفف ينابيع الانتماء إلى أوطاننا، وتذبل في قلوبنا الولاء لها. ليكن شعار كل منا: «بلدي أولا وثانيا وعاشرا وأخيرا». لنتوقف عن إصلاح ذات البين بين حماس وفتح، فلا يوجد أحد في حماس يؤمن بالبعد الاستراتيجي لصلح الحديبية، ولا أحد في فتح يؤمن أن غيره فلسطيني وطني أمين على مصلحة شعب فلسطين. فجهودنا المتواصلة في سبيل الإصلاح التي لم تتوقف أبدا، ليست أكثر من مناطحة صخور. فالخلاف بينهما ليس إلا اختلاف في الأمزجة، ومزاج المنظمتين الآن متوعك ومتعكر، فلننتظر حتى يروق المزاج، ويزول العناد الذي لا سبب خارجي وراءه من أي طرف أبدا، وعندها سيبلل كل منهما وجه الآخر باللعاب من كثرة التقبيل والتلحيس، وسوف تطقطق عظام صدروهم من العناق الحار، ومن يدري قد يخلفان لنا كتكوتا صغيرا نسميه «فتحاس» على وزن فرناس ومتعاس ومتحاس. علينا أن نقابل بالعناق كل من يتنازل عن حقه في العودة، ويدفن مفتاح داره في فلسطين قبل 48، ومن يعدّ الدماء التي سالت حتى الآن دماء خرفان وماعز لفطير صهيون؛ فكيف نعود لبيوت وقرى ومدن مُسحت عن وجه الأرض، ومقابر حُوّلت إلى فنادق للدعارة؛ هل نحن قليلو دين؟!. علينا أن نقدم الجوائز والدروع للمطبّعين، كي يعرف الملايين من المترددين أنهم مرحَّب بهم حال اتخاذهم القرار الصحيح باعتبار من اغتصبوا أرض الأجداد إنما فعلوا ذلك لأن الأرض ضيقة، وفلسطين كانت فارغة، وأن بعض رعاة الجمال فيها بعثوا برقيات مستعجلة تنضح رجاء وتزلفا بأن يأتي أبناء عمنا الصهاينة، ويحلوا أهلا ويطأوا سهلا. ولن تقوم للتطبيع قائمة إلا إذا حرصنا على شراء البضائع الإسرائيلية، والكف عن وضع ملصقات كاذبة عليها تقول: صنع في تايلاند، أو هونغ كونغ أو تايوان أو هذا البلد العربي أو ذاك. هذه المبادرة إن تمت، ستكون أعظم بوادر حسن النية تجاه دولة جارة مسكينة لا حول لها ولا قوة، وإن هي إلا هريرة «أو بسينة» تضطر أحيانا إلى الخرمشة حين يدوس على ذيلها أطفال جهلة يلهون بصواريخ عبثية كما يصفها الرئيس المناضل الذي لا تنتهي ولايته، رئيس دولة فلسطين الكبرى. باختصار انسوا فلسطين، فتذكُّرها من دول كدولنا، وشعوب كشعوبنا، ومثقفين كمثقفينا، وبطريقتنا الحالية، مخجل ومقزز ويسمم البدن. نعيم الغول |
|
|||||||||||||