العدد 78 - ثقافي | ||||||||||||||
مراجعة: يوسف رابوبورت* اكتسبت دراسة الفقر والعمل الخيري في الشرق الأوسط في عصور ما قبل الحداثة، زخما كبيرا في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من أن مؤسسات العمل الخيري الإسلامية، وأساسا الأوقاف، قد درست بشيء من التفصيل اليوم، فإن طبيعة المصادر الإسلامية في القرون الوسطى لا تسمح، في العادة، بالإمساك بتجارب الفقراء. وفي ما يتعلق بـ«التاريخ من الأسفل»، فإننا في حاجة إلى ثروة من المراجع الوثائقية، التي من أجلها على المرء أن يعود إلى وثائق الجنيزاه الصادرة عن الجماعة اليهودية في القاهرة الفاطمية. وبخلاف أي مرجع قروسطي آخر، فإن الجنيزاه تضم قوائم بالمانحين وبالمتلقين للهبات الخيرية، وكذلك على رسائل عديدة كتبت نيابة عن الفقراء، وهاتان الفئتان الفريدتان من المراجع هي لب العمل الحالي. تنقسم الدراسة إلى جزأين، الأول: نقاش لموضوعة الفقر والهبات الخيرية في مجتمع الجنيزاه، ويدرس هذا الجزء تكوين الفقراء، مع فصول فردية مخصصة لجماعات هشة مثل الأجانب والأسرى والنساء والمعوقين. ويدرس فصل ختامي طويل المؤسسات المجتمعية للعمل الخيري. أما الثاني فهو جزء مرافق يتضمن مقتطفات من رسائل الاسترحام وقوائم الصدقات مترجمة، ما يسمح للقارىء العادي طريقاً مباشرة للوصول إلى هذه الوثائق النادرة. والهدف الأولي من هذه الدراسة ذات الجزأين هو وضع الفقراء على المسرح الرئيسي. وفي ما ترسم المراجع الأدبية كتلة مجهولة التفاصيل للمحتاجين والجوعى، يأخذ كوهين من الجنيزاه أسماء لأفراد قد يرد ذكرهم في قوائم صدقات الجماعة بوصفهم متلقين لحصصهم من الخبز أو بوصفهم كتاباً للرسائل التي تطلب المعونة من زعماء الجماعة. وتقدم قوائم الصدقات في صورة خاصة، نفسها موضوعاً للتحليل الإحصائي، فهي تضم سجلاً لأسماء الأفراد المؤهلين لتلقي مخصصات من الخبز. وكما هو متوقع، فإن قوائم الصدقات تضم أولئك الذين كانوا في حالة فقر دائم، مثل: المعوقين وكبار السن والغرباء والنساء الوحيدات اللواتي لم يكن قادرات على إيجاد وظائف. هذه المجموعات كانت مختلفة، كما يجادل كوهين، عن تلك التي كانت تسعى للحصول على الهبات الخيرية فقط حين كانوا يجتازون أوقاتاً صعبة. إحدى نقاط النقاش القوية في الكتاب هي أن جماعة الجنيزاه مثلت نقطة اختلاف واضحة بين الفقر البنيوي وذاك المرتبط بظرف محدد. هذا الاختلاف يأتي في صورة أكثر قوة في رسائل الاسترحام، حيث يتعرف كوهين إلى عبارات الخجل المرافقة للمناشدات المقدمة إلى جهات العمل الخيري العام. فالرجال والنساء الذين لم يكونوا متعودين على القيام بذلك، ولكنهم واجهوا ظروفا صعبة، كانوا يفضلون عدم فضح أنفسهم بالذهاب إلى مراكز التوزيع العامة للهبات الخيرية؛ وبدلا من ذلك، كانوا يناشدون جهات مانحة خاصة حتى لا تنكشف حاجتهم. الخجل المربتط بالمناشدة للحصول على هبات خيرية والحاجة إلى إخفاء الوجه يهيمن على رسائل الاسترحام. ويشير كوهين إلى أن هذه الموضوعة ذكرت في الخطاب القانوني والديني اليهودي الخاص بالعمل الخيري، والذي ينتقد التسول ويعطي الأولوية للرجال البارزين الذين فقدوا ثرواتهم. لذا يشتبه المرء في أن إيصال التجربة الحقيقية للفرد الفقير لم يكن متضمنا في كل الرسائل، لأنها كتبت بهدف واضح هو الحصول على هبات خيرية. ومع ذلك يجادل كوهين في أن المادة المتضمنة في الرسائل لا تقرأ كما تقرأ الرواية، وحتى لو سمحنا ببعض التزويق والمبالغة، فإن معظم الرسائل تروي قصصاً عن مآس وبلوى عادية، غير متوقعة، وبالتالي فإنها معبرة. ويلقي كوهين الضوء على أهمية الإطار الإسلامي بوصفه نقطة مرجعية أولى لفهم مجتمع الجنيزاه، فتركيبة رسائل استجداء الجنيزاه مثال جيد التعبير. ومع أن هنالك مقارنات مفيدة بين رسائل الجنيزاه ورسائل التوصة اليهودية، أو «رسائل المعوزين» الأوروبية، فإن كوهين يثبت أن رسائل الجنيزاه تدين في هيكلها إلى بنية رسائل الاسترحام الإسلامية في القرون الوسطى. وفي المقابل، فإن مقارنة بين مؤسسة «هاقديش» اليهودية ومؤسسة الوقف الإسلامي المعاصرة تكشف عن أن هناك وظيفتين مختلفتين. وعلى الرغم من أن الوقف في المجتمع الإسلامي كان وسيلة أولية لإيصال الهبات الخيرية إلى المحتاجين، فإن مؤسسة هاقديش اليهودية كانت في صورة عامة، احتياطياً للحفاظ على موظفي الجماعة اليهودية. كما أن المجتمع الإسلامي لم يكن لديه نظام مركزي لتوزيع الغذاء كما نجد في الجنيزاه. يهتم كوهين بالطريقة التي أثر فيها السياق التاريخي المحدد في تطور الخطاب القانوني اليهودي حول الهبات الخيرية والفقر، كما يوضح ابن ميمون - الذي كان بطبيعة الحال شخصية بارزة لمجتمع الجنيزاه. وتظهر مناقشة كوهين التفصيلية لأفكار ابن ميمون حول الفقراء الأجانب وفدية الأسرى، أو الاستخدامات المسموح بها لأموال الجماعة اليهودية، كيف أن ابن ميمون قد وضع مبدأ مبكراً يتفق مع السياسات المعاصرة للجماعة اليهودية. ولهذا التقليد مضامين أوسع لدراسة القانون والمجتمع في المجتمعات الشرق أوسطية في القرون الوسطى، وإلا لكان من النادر أن توثق – وليس فقط إطلاق التخمينات بشأنها - عملية تحويل الممارسة الاجتماعية إلى قانون ديني. وعلى الرغم من تلك الثروة من المراجع، فإن الخبرات الحقيقية للفقراء تبقى مراوغة، وربما كانت هذه هي الثغرة الأساسية الوحيدة في إنجاز كوهين. لدينا هنا أصوات الفقراء وليس من الضروري أن تكون هناك وقائع حياتهم. وبسبب محدودية المراجع، فإن المرء ربما يود لو أنه سمع المزيد عن الخيارات المتاحة أمام المحتاجين بخلاف مناشدة أرباب العمل الخيري العام والخاص. ونحن نعرف، مثلاً، أن كثيراً من النساء في مجتمع الجنيزاه، وفي المجتمع الإسلامي المحيط، كن يعملن بأجر بغض النظر عما إذا كن عازبات. فهل كانت الأرامل والمطلقات حقا فقيرات «بنيويا»؟ وهل كان أمامهن خيار أن يعملن أو يستجدين الهبات الخيرية، أو ربما كلاهما؟ وثمة مثال صارخ آخر في الفصل المخصص لعبء ضريبة الرأس الذي كان له أثر مدمر في العائلات اليهودية الأكثر فقراً. وكان القارىء يتوقع العثور على نقاش لحالات التحول إلى الإسلام بوصفه وسيلة لتجنب دفع ضريبة الرأس، حتى لو كان مثل هذا الخيار مذكوراً في صورة صريحة في الوثائق. وعلى أي حال، فإن التحول إلى الإسلام – بما له من مضامين حول الطريقة التي كانت تستخدم فيها الهبات الخيرية وسيلة لترسيخ التضامن المجتمعي – لم يناقش. يمثل كتاب كوهين دليلاً إلى وثائق الجنيزاه، فهو يتمتع بألفة مثالية للعلاقة اليهودية العربية وتقاليد مسك دفاتر المسؤولين في الجماعة. وتقديم هذه المادة أمر جيد، والترجمات التي احتواها الكتاب المرافق من السهل الوصول إليها، فهي مرتبة بحسب الموضوعة. وغلافا الجزءان المزينان بصور لقوائم الصدقات المتناثرة المليئة بالثقوب، لكن القابلة للقراءة، طريقة مناسبة لإيصال الشخصية الفريدة لوثائق الجنيزاه التي تشكل أساساً لهذه الدراسة. لا شك في أن هذا الكتاب مطلوب للقراءة من جانب كل من هو مهتم بدراسة الفقر والعمل الخيري في العصر الإسلامي الوسيط والتقليد اليهودي. ولأن مراجعه غنية في صورة استثنائية، فإن من الممكن المجادلة في أنه أيضا مساهمة مهمة في فهم المؤسسات الخيرية غير الأوروبية في فترة ما قبل الحداثة. والتقديم الواضح للمادة، وبخاصة الوثائق المترجمة في النسخة المرفقة، تجعل من هذا الكتاب عملاً مفيداً جداً للطلبة في مرحلة ما قبل التخرج وما بعدها. * قسم التاريخ، جامعة الملكة ماري في لندن، لندن. بالتعاون مع: المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط International Journal of Middle East Studies |
|
|||||||||||||