العدد 78 - كتاب
 

شخصيتان من الشخصيات الأيقونية التي أثّرت في جيلنا: سيمون دو بوفوار، وتشي غيفارا. كانا أسطورتين.. نجمَين ساطعَين في سماوات وعينا وتمردنا، وكثيرا ما علّقنا صور غيفارا بالبيريه الأسود والنجمة الذهبية على جدران غرفنا، وعددنا كتاب «الجنس الآخر» لسيمون دوبوفوار أحدَ أناجيل التغيير في عالمنا المضطرب الذي حلمنا بتغييره.

نعلم أن إحدى سمات الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية في القرن العشرين كانت تصنيع النجم-الأيقونة، وتحويل شخصية ثقافية أو ثورية إلى أسطورة أو معبودة، بوسع تأثيرها أن يصل حد التحكم بالأذواق والأمزجة والصناعة والموضة والسلوك الاجتماعي والصحة والنمط الاستهلاكي، لكن التوجهات العامة في ظاهرة ما بعد الحداثة الغربية في القرن الحادي والعشرين تميزت بنزعة حادة لإسقاط الهالات، وتحطيم الأساطير، والكشف عن مثالب وسوءات شخصيات وأفكار وأيديولوجيات، وإزاحة البعد الرمزي والأيقوني لها، ونزع هالة التقديس والحصانة عنها.

إفراطٌ في التكريس، وإضفاءٌ لنوع من القداسة على شخصيات فكرية سياسية، أفضى، في الأخير، إلى الارتياب بها، واهتزاز المضامين الحقيقية لتلك الشخصيات والأفكار التي لم تصمد إزاء النقد ما بعد الحداثي وحركات التفكيك التي طالت البنى الاجتماعية والسياسية والفكرية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

شهدت باريس منذ أيلول/سبتمبر 2008 على المستوى الشعبي والثقافي، سعيا متضادا يتمحور حول إسقاط أسطورة الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا من جهة كتّاب معينين، وفعاليات شعبية وفنية –مسرحيات وقراءات وحفلات موسيقية- لتكريس الأسطورة اللاتينية من جهة أخرى، لمناسبة مرور أربعين عاما على غيابه، وتحول الاحتفاء من جانب سياسي وشغف نفسي إلى استثمار رائج.. فمن بيريهات ذات نجمة إلى قمصان وملصقات تحمل صوره، إلى ملابس عسكرية وتسريحات شعر وسوى ذلك، كما صدرت مجموعة شعرية لغيفارا وتُرجمت إلى لغات عدة في المناسبة نفسها، وجعل غيابه الجسدي -منذ أربعين عاما- حضور رمزه أشد سطوعا في أفق اليسار الأممي، فتصدّرت صوره الساحات العامة والمحطات والمقاهي، معلنةً عن فعاليات اليسار لإحياء الذكرى الأربعين لإعدامه التراجيدي في بوليفيا.

الكاتب الصحفي الكوبي المعارض اللاجئ في فرنسا خيسوس زونيـكا الذي تعرفتْ إليه كاتبة هذه السطور، خلال إقامتهما كلاجئَين في بيت الصحفيين الفرنسي، نشر في 2008 كتـــابا عن غيفــارا بعنـوان «تشي – الوجه الآخر» يتضمن وثائق ومعلومات من عقر دار الثورة الكوبية الهرمة، تدين قادتها بالدموية والفساد والعنف والتواطؤات، وفي مقدمتهم الطبيب الوسيم الثوري غيفارا، أيقونة الثوار الأممين في القرن العشرين، ومعبود الشبان في نهاية الستينيات، وكان أيقونتي الساحرة كمعظم النساء الشابات المتمردات في السبعينيات.

في كتابه الآخر «كوبا الدكتاتورية المدارية»، يقدم زونيكا صورا من داخل كوبا لنقد الفردوس الاشتراكي المزعوم، ممثلا بقادة كوبا ورموزها لنزع هالة الأسطرة عن قادة ألهموا الشبان في أنحاء الأرض، وفوضوهم تغيير العالم بالعنف الثوري الذي تحول في أوائل القرن الحادي والعشرين إلى موجات من الإرهاب المدمر، بينما بقي بعضهم متمسكا بهواه الثوري متخندقا في شعارات لم تعد تصلح لعصر الميديا..

مجلة «لونوفيل أوبزرفاتور» الرصينة -مجلة الاشتراكيين التي كانت سيمون دوبوفوار من كتّابها المرموقين- احتفلت بالذكرى المئوية لميلاد دوبوفوار -التي مرت الصيف الماضي- بطريقة صادمة، إذ نشرت صورة عارية لها على غلافها رفقة تحقيق بعنوان: «سيمون دوبوفوار الفضائحية»، وتضمن الموضوع المرافق معلومات عن علاقات جنسية متعددة وعلاقات مثلية بينها وبين طالباتها أدت إلى استقالتها من التدريس، وعرض فيلم تلفزيوني عن حياتها يوثق لعلاقتها المثيرة للجدل مع جان بول سارتر على قناة «آرتي»، وعلاقاتها المثلية، وطروحاتها الفكرية، وانسلاخها عن طبقتها البورجوازية.. وإثر صدور المجلة وعلى غلافها الصورة العارية قامت تظاهرة نسوية أمام مبنى المجلة الشهيرة تطالب بسحب المجلة أو نشر صورة رئيس التحرير بالوضعية العارية نفسها.. في حين قامت جامعة باريس السابعة بعقد حلقات دراسية تشرف عليها الألسنية جوليا كريستيفا وآخرون لإحياء الذكرى المئوية لدوبوفوار، وخصصت منابر عدة في معهد رولان بارت وجامعات فرنسية أخرى لدراسة أعمالها ومناقشة طروحاتها الفلسفية تحت سؤال مشكك: هل كانت دوبوفوار فيلسوفة؟

غير أن بلدية باريس كانت أعمق وفاء من الجميع لصاحبة كتاب «الجنس الآخر»، وأكرم من المثقفين إزاء إحدى أساطيرهم النسوية؛ فأطلقت اسمها على جسر مهم للمشاة في باريس، وأعيد طبع عدد كبير من كتبها، وظهرت عشرات الكتب عنها وعن حياتها الإشكالية ما بين دراسات وروايات وحوارات، وتصدّرت صورها المحتشمة عددا كبيرا من الأغلفة. وارتبط موضوع غيفارا ودو بوفوار، عندما كتب بعضهم عن رأي جان بول سارتر بغيفارا ووصفه وصفا مثاليا: «إنه أكمل الرجال في عصرنا».. هكذا وصف سارتر غيفارا غداة اغتياله، بينما يقوم اثنان من أبناء غيفارا الثوري الماركسي بزيارة إلى إيران دعما لمواقفها السياسية (!!)، بمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل الأب، فوضى في بوصلة الثورات وما تبقى من إرث الأساطير تحت طائلة ما بعد الحداثة وعمائها المضطرب.

لطفية الدليمي: ما بعد الحداثة ونقض الأساطير
 
28-May-2009
 
العدد 78