العدد 78 - ثقافي
 

عواد علي

لم تأخذ القصة القصيرة مكاناً لائقاً في نظريات السرد، والتاريخ الأدبي، مقارنةً بالرواية، رغم كونها نوعاً سردياً متميزاً، وتمتلك تقاليد خاصةً، وبنيةً شديدة الإحكام.

من بين النقاد القلائل الذين نظّروا لهذا الشكل الأدبي، الناقد الأميركي شارلز ماي، في دراسته المهمة «التحفيز الاستعاري في القصة القصيرة» المنشورة ضمن كتاب «نظرية القصة القصيرة في مفترق طرق»، حيث يركز على جوانب مهمة ميزت شعرية القصة القصيرة منذ نشأتها في بداية القرن التاسع عشر، من خلال تحليل نماذج قصصية ترجع إلى مرحلة النشأة.

يقصد ماي بالقصة ما حدده الشكلانيون الروس، أي أنها متوالية من الأفعال السابقة في وجودها، والمستقلة، عن أي تقديم كلامي للأحداث، وبهذا يجري تمييزها عن الحبكة، والخطاب. وهو يستخدمها إجرائياً بطريقتين مختلفتين، وإن كانتا مرتبطتين: طريقة تاريخية ليشير بها إلى أسبقيتها كأسطورة على كونها خطاباً، وطريقة نظرية ليستغل الأسبقية المعروفة لها كمتوالية على الخطاب كتقديم بلاغي. كما يستخدم الاستعارة، أيضاً، بطريقتين مختلفتين: الأولى ليشير بها إلى «الظاهرة الدينية- الأسطورية»، والثانية بالمعنى الجمالي. أما التحفيز فيقصد به الفكرة العامة عما يصنع فعلاً شخصياً بطريقة خاصة، ويستخدمه، أيضاً، بالمعنى الجمالي لدى الشكلانيين الروس، وذلك لكي يشير به إلى شبكة التقنيات الأدبية التي تسوغ تقديم الموتيفات (الحوافز) الفردية، أو الجمعية في عمل ما.

يتفق ماي مع إيخنباوم -أحد أقطاب الشكلانية- على أن القصة القصيرة شكل أساسي أولي، بل إنه يشير إلى أنها شكل له صلة وثيقة بالسرد البدائي، الذي يجسد التصور الأسطوري ويلخصه، والذي يكون من سماته التكثيف لا التوسع، والتركيز لا التشتت. وبدلاً من تقديم التفاصيل بشكل خارجي تماماً، وبطريقة ثابتة في الزمان والمكان، فإن القصة لا تستغل إلاّ تلك التفاصيل الضرورية والنافعة لها، ويبدو التقدم فيها وكأنه متّجه الى هدف وحيد. وفي شكلها الفني يصبح التوتر بين المتطلبات الجمالية، ومتطلبات مشابهة الحقيقة أكثر حسماً منه في الرواية؛ ذلك أن قصر القصة القصيرة يتطلب شكلاً جمالياً أكثر مما يتطلب شكلاً طبيعياً أو أساسياً. كما أن القصة القصيرة تظل -أكثر من الرواية- أقرب إلى أسلافها في بناء القصة الأسطورية. إضافة إلى ذلك، فهي أكثر ارتباطاً بصيغة الرومانس منها بالصيغة الواقعية، ومن ثم فإن الشخصيات فيها أقرب إلى أن تكون -كما يشير الناقد الكندي نورثروب فراي- شخوصاً مؤسلبة أكثر منها أناساً حقيقيين، فهي تبدو كأنها تفعل وفقاً لتقاليد مشابهة الحقيقة والمعقولية، لكن لأن قصر الشكل يمنع من التقديم الواقعي للشخصية عن طريق التفاصيل الكنائية الشاملة، وبما أن تاريخ القصة القصيرة هو التاريخ الذي تلتقي فيه الشخصية بحادثة حاسمة أو أزمة أكثر مما تتطور عبر الزمن، فإن الشكل والتراث الخاصين بالقصة القصيرة يعملان بقوة ضد التقاليد المحورية في الواقعية.

كما يذهب ماي إلى أن الشخصيات هي في الوقت نفسه أقنعة اجتماعية في قصّ واقعي، وتجليات رمزية في قص رومانسي، وتتحول في عملية السرد إلى مجاز، أي أنها تصبح واقعةً في خطاب من صنع مجازها وهاجسها الخاص. وهذه هي العملية التي يحول بها التحفيز الواقعي والعرض الرومانتيكي قصة الرومانس القديمة إلى خطاب قصصي جديد.

القصة القصيرة، في رأي ماي، هي الجوهر البنائي لكل قص، وذلك في أخذها عن الحكاية الشعبية والأسطورة، بل إنها، رغم استمدادها مباشرة من هذه الحكاية، وذلك التراث الجمالي للرومانس، فإن ظهورها في بداية القرن التاسع عشر كان محكوماً بالضرورة بفرضيتين حول علاقة الفن بالواقع: الفرضية الواقعية، والفرضية الرومانتيكية، وقد ائتلفتا في القصة القصيرة بطريقة خاصة لتخلقا قيمةً نظريةً في التمييز بين الميل إلى ما يسميه فراي «التمثيلي» و«المزاح» من ناحية، والميل إلى الوحدات الأسطورية والمجازية المحفوظة من ناحية أخرى (بين الحقيقة والخيال)، كما أن لها قيمة تاريخية في التذكير بأن القصة القصيرة في القرن التاسع عشر، رغم أنها تستمد من الأسطورة البدائية، ورومانس القرون الوسطى، كان لا بد أن تدخل في علاقة مع الواقعية في رواية القرن الثامن عشر، والخيال اليقظ في شعر القرن التاسع عشر.

على غرار تأكيد الناقد الأميركي جوناثان كلر، يؤكد ماي أنه، رغم التفكير السائد في القصة عادةً وكأنها وجود سابق على الخطاب، فإن ثمة حالات تكون فيها القصص نفسها تشكك في هذه الأسبقية أوتدمرها من خلال تقديم الأحداث، لا بوصفها أحداثاً معروفةً، بل نتاجاً لقوة الخطاب أو متطلباته. ورغم أن كلر يقول إن هذين المنطقين لا يمكن أن يجتمعا لأن كلاًّ منهما يعمل على تدمير الآخر، فإن ماي يتفق مع بيتر بروكس (أستاذ النقد في جامعة ييل) على أن ما يصفه كلر هنا هو المزج بين الاستعاري والكنائي، ذلك المزج الذي يشكل الطبيعة الخاصة للسرد. ونظراً لمحاولته المتعمدة للجمع بين البنية الاستعارية للرومانس القديمة، والبنية الكنائية في الواقعية الجديدة، فإن هذا المنطق (المزدوج) يصبح حاسماً، على وجه الخصوص، في تطور القصة القصيرة.

رؤية نظرية لجماليات السرد القصصي
 
28-May-2009
 
العدد 78