العدد 78 - بورتريه | ||||||||||||||
موفق ملكاوي
أول رسمة خطتها ريشته كانت لمواطن عربي ظله ينعكس على شكل مخبر، يسير معه ويتعقبه في الشارع وفي كل مكان. ونُشرت حينها في صحيفة «المحرر» الصادرة في باريس. كان عمره آنذاك 18 عاما. ربما لم يدر في خلده حينها أنه يؤسس لحضور بهي على ساحة فن يتآخى مع الهم اليومي، ويستشرف نبض الشارع. تعيقه كثيراً فكرة الرقابة، فيذهب بكل ما أوتي من ذكاء وإبداع إلى مراوغة الفكرة، محاولاً الخروج من عباءة الرقيب، أو الالتفاف عليه، لكنه يعترف أن للرقيب «حاسته العاشرة»، لذلك يقول: «أجمل ما رُسم هو ما لم يُنشَر». إنه فنان الكاريكاتير الأردني ناصر الجعفري بابتسامته الدافئة، التي تفصح عن الكثير من العبارات المستعصية على اللسان، وبعينيه اللامعتين ببريق الباحث عن الفكرة، والمقتنص للحظة الماثلة. موهبته الفنية رافقته منذ سني عمره الأولى. اكتشفها مدرس في الثانوية كان جاداً في البحث عن المواهب، فقدم عملاً له إلى إحدى المسابقات المدرسية، ليفوز ناصر بها. ناصر يرى فن الكاريكاتير على أنه «وسيلة التعبير الذاتي عن هواجس سياسية واجتماعية وإنسانية».ويؤكد أن «شرعية أي عمل إبداعي هي في ما يمنحه للمبدع من القراء»، لذلك يشعر بكثير من الرضا لكونه فناناً محاطاً بقبول قراء عديدين، ولربما يزداد ذلك الرضا حين النظر إليه من زاوية تقدير المؤسسات لفنه، بنيله العديد من الجوائز، كان آخرها جائزة الصحافة العربية من دبي منتصف أيار الجاري. ولكن الجوائز التي نالها لا تخرجه عن تواضعه، حين يؤكد «حالة الفوز بالنسبة للمبدع لا تقدم ولا تؤخر»، فهو يعتقد أن سعادته تتأتى من إنجاز العمل الإبداعي أكثر من الجائزة. وهو يرى أن نجاح الفنان يكمن في تخطيه حاجز الزمن بإبداعه، وذلك في أن «يبقى للوحة ألق ما خلال أطول فترة زمنية ممكنة». لكن ناصرمن منطلق تواضعه وموضوعيته، لا يفرط في التفاؤل في طبيعة الدور الذي يلعبه الكاريكاتير في العالم العربي، وهو ليس متأكدا إن كان قادراً على لعب دور المحرض للشارع، أم إن دوره يقتصر على كونه «وسيلة للتنفيس عن الغضب المكبوت لدى الناس حتى لا يصلوا إلى مرحلة الانفجار». ويقول «لم أعرف يوماً ان تظاهرة خرجت بتحفيز من رسم كاريكاتيري!». إلا أنه لا ييأس من مهنته، ويرى مهمته كرسام كاريكاتير «أن أقرع الجرس في كل صباح ضمن ما هو متاح من سقوف رقابية»، والمهمة اليومية التي يتصدى لها هي «نوع من التنفيس الشخصي عن الغضب، على أن يمتزج هذا الصراخ مع الوجدان الجمعي للناس». عشية فوزه بجائزة الصحافة العربية أزجى إليه زميله في «العرب اليوم» محمد كعوش مقالا احتفائيا، قارنه فيه برسام الكاريكاتير العربي الشهيد ناجي العلي، مؤشرا على أن الجعفري «يمتلك وضوح الرؤية وثبات الهدف، ويجتهد في تشكيل وعي مبكر باستقراء ما هو آت قبل بلوغ اللحظة». يؤكد كعوش أن زميله «نجح في مزج شاعرية الفنان والوعي السياسي والاجتماعي بخطوط متوهجة، فمثّل ضمير الناس». رائياً أنه «متابع يقظ يتسلح بمخزون من الوعي الجامح والمعرفة الجامعة». لا ينكر الجعفري أنه مدين مع جيله لتجربة ناجي العلي، «فهذه التجربة هي ما لفتت الانتباه لهذا الفن». وهو في المحصلة، وكما هو ناجي العلي، ابن النكبة والنكسة والحصارات والهزائم واختبار احتلال العواصم العربية، وما تلاها من محاولات قتل الشعور بالعزة والكرامة العربية. يعترف أن موهبته بما تحمله من غضب مكبوت، تفجرت للمرة الأولى في صيف العام 1982، عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وسط أسرة احتفت بموهبته وساعدته على تنميتها، وأول رسم أنجزه كان وجها ساخرا؛ نصفه بشري ونصفه الآخر حذاء. وكفنان ملتزم ومحترف، فهو مقتنع بأن وجدان الأمة لا يخطئ، لذلك نادرا ما يصطدم مع هذا الوجدان في إبداعاته، متمثلا مقولة «مقدسات شعبي هي مقدساتي»، لذلك فهو ينهل من الهمّ الجمعي في مواكبته الجرح يوماً بيوم. ويعترف بأنه تمنى أن يرسم ما يدعو الى الفرح والضحك، «لكنني وللأسف أجدني محاطاً، ككل مواطن عربي، بوجع يومي يمتد على مساحة نشرات الأخبار وعلى أبعاد الوطن الأربعة». يأسف الجعفري كثيرا على أن هذا «الفن الذي يعتمد على المفارقة، بات أضعف من مفارقات الأحداث المرعبة»، مبديا عجزه التام عن المواكبة، فالجروح كثيرة، ومفتوحة على أكثر من اتجاه: فلسطين، العراق، لبنان، الصومال، السودان، ولا يدري إلى أين يقود الدم غدا. يؤكد ناصر عبء أن يكون المرء مواطناً عربياً في الألفية الثالثة للبشرية «لكوني مواطناً عربياً فلا يمكنني أن أتغاضى عمّا يحدث حولي»، فرغم إرادته هناك توجيه قسري يدفعه لتشكيل لوحته المقبلة، ففي رأيه «المجتمع العربي يعيش همّا دائما». مقربون من الجعفري يؤكدون أنه «صديق حقيقي»، مستمع جيد للآخرين، وديمقراطي؛ يعتدّ برأيه كثيراً، إلا أنه يترك المجال أمام من يخالفه لإبداء رأيه، وهو متواضع قد يعترف بعدم سداد رأيه إن توصل إلى حقيقة كهذه. في محيط العمل يحظى الجعفري بالاحترام والمحبة، ويمتلك رصيداً كبيراً من الأصدقاء الذين يكرزون بحبه في غيابه قبل حضوره. خجله المتبدي من خلال حديثه «حقيقي وغير مصطنع»، نما في شخصية الفنان الذي يميزه التواضع، لكن حين يبدأ القارىء في مطالعة رسوماته، يكتشف أن ناصر لا يتعامل بخجل مع الأسئلة الكبرى التي تجتاح عالمنا، بل يؤشر عليها بجرأة كبيرة، ويدينها بحزم. ناصر المولود في عمّان العام 1969، نال دبلوم إدارة الأعمال، ثم بكالوريوس في فن الكاريكاتير من جامعة «بنسلفانيا» الأميركية عن طريق الدراسة بالانتساب، اشتغل في «همّ الإبداع» نحو عشرين عاما، وهو يدرك أن «الجرأة وحرية التعبير تتفاوت بين مرحلة وأخرى». ويؤكد «كل النظم السياسية تتعامل بدرجات مختلفة مع الحالات السياسية الطارئة، ما ينعكس بشكل مباشر على الصحافة وبالتالي على رسام الكاريكاتير». يخاف من القمع، لذلك يلجأ إلى إدانته في كل حين، ويرنو إلى الحرية والانعتاق، لذلك تكثر في رسوماته الشواهد الفلسطينية والعراقية، فهو يدرك أن أعواما كثيرة مرّت من دون أن تتنفس بقاع عربية هواء خاليا من الاحتلال. هو فنان لم يرهن نفسه يوما للمقاولات، فقد ظل وفيا للنبض الحقيقي للإبداع، حتى لو داهمه الجوع. غير أنه يشعر بالرضا عمّا قسمته له الحياة من موقع وفرصته، وبسؤاله عن مسيرته الإبداعية يبدو مترددا في إبداء الرضا، فرغم أنه واحد ممن يؤشر إلى إبداعهم الكاريكاتيري اليوم في العالم العربي، إلا أن الرضا عن النفس لدى المبدع الحقيقي يظل غاية لا تدرك،، ويأمل من الزمن فسحة: «نادرا ما أجد نفسي معجباً برسم لي، بل على العكس، فأنا شديد القسوة في الحكم على أعمالي». أمنيته الأغلى أن ينجز رسماً مفرحاً، لكنه يعترف أن «تطور الأحداث في المنطقة والعالم يحول دون ذلك»، ليجد نفسه «عاجزا عن الدفع بالقارئ نحو الأمل»، لذلك لا يلبث أن يرتد نحو موقعه كمثقف تنويري مؤكدا أن «مهمتي ليست الخداع، بل الصدق حد الألم». ذلك الألم هو ما يحاول الجعفري تعريته، فهو يدرك أن رسام الكاريكتير «لا يطلب منه أن يجد الحلول للظواهر السلبية، وإنما عليه تسليط الضوء عليها». والألم بالنسبة إليه هو فصل الخطاب بين الابتسامة المنطوية على عمق الطرح، وبين التهريج. «الكاريكاتير ليس مرادفا للنكتة»، على ما يقول فهو«الإبحار في فوضى الجروح، واختيار أجملها للبوح»، مبينا أن «الكاريكاتير في جوهره صورة بصرية قد لا تحمل أي دعوة للضحك، بل على العكس تماما، هو ترجمة لكوميديا سوداء، تدفع إلى التأمل.. وربما البكاء». |
|
|||||||||||||