العدد 77 - كتاب
 

ليس بوسع أحد أن يدّعي ملْكية الحكاية، فالحكاية ملْك مشاع تنتقل مع الريح والمطر وخفق النجوم، وتحلق فوق الزمان، لأنها مادة لا زمنية، لا الحكواتي يمتلكها، ولا رواة القبائل، ولا الجدات، ولا منظمو مهرجانات الحكايات، لأنها تنبثق من نبع فردوسي يغفل المرء عن سحره في استسلامه لنمط مدنية فرضت تسارع إيقاعات الحياة، وتبدّلها، وهيمنة وسائل الإعلام وزمنها الأفقي وما تسببه من تعطيل للمخيلة الإنسانية.

متى تنولد الحكاية؟ من أين تنبثق؟ من يمتلكها؟ كيف تكبر وتمتد وتتغير في كل عصر؟.

هل يتلاشى زمنها الطقوسي اللامحدود حين تسرد في مسرح معاصر؟ هل تصمد الحكاية أمام عولمة الثقافات؟ أين تكمن سلطة الحكاية؟.

الحكاية مادة سحرية، تتلون وتتغير وتكبر مثل كائن حي، وتتوالد عنها حكايات. هناك حكواتيون يستولدون الحكايات من ذاكرة الناس وأحلامهم، ويعززونها بإضافات إبداعية، ويوجهون مسارها نحو رؤى إنسانية، ويُشركون المتلقي في عملية البحث والإضافة وتطوير الحكاية.

التقت كاتبة هذه السطور حكواتيين في صباها، كانوا من شيوخ القرية وجدّاتنا، وكان الشيخ الساخر علي الحداد مصدر سعادة للصغار عند زيارته القريةَ، يسمر مع الرجال في ليالي الشتاء ويشرع في سرد الحكايات العجيبة وينوع في تفاصيلها كل مرة ويضفي عليها سحرا من شخصيات جديدة وأحداث غرائبية وهو يلف السجائر بين أصابعه بمهارة حداد متقاعد، ويحرك جمر الفحم في الموقدة، ويغشى وجهه بخار أباريق الشاي ودخان حطب التوت، فتتراقص الظلال على وجهه الأصهب، فيبدو واحدا من شخصياته الحكائية والأطفال يرتجفون خوفا من هجمة الغول أو انبثاقة الجني من قارورة أو صندوق عجائب.

حكاؤون مدهشون في بلدان مختلفة التقيتُ بهم، وأصغيت إلى إيقاع الحكي السحري، وأدهشني واحد منهم بطريقته المبدعة في التواصل مع جمهوره وسحر أدائه وتمثيله البارع ومخيلته المتدفقة. إنه المخرج والكاتب والحكواتي الكولومبي «كارلوس فيدال»، رأيت المستمعين يحاورونه ويناقشهم، فيمارس الحشد طقوس استيلاد حكاية جديدة مستلهمة من الذاكرة الجمعية في ثقافات شتى، حتى يتوصل الحضور إلى الشكل الأخير وليس النهائي للحكاية، إذ يواصل كارلوس تعزيزها بموتيفات وإضافات في كل عرض له على المسرح، وتتداخل وجهات النظر وتتقاطع لتغدو الحكاية نسيجا حيويا ممتعا من صنع الجماعة.

يقول كارلوس: الحكاية تحيا في زمن أفلت من سياق الزمن الأرضي، لا الميديا ولا العولمة الثقافية

بإمكانها التقليل من سحر الحكاية الخفي في ارتباطها بالزمن الفردوسي ورموزه الأولية التي تحن إليها الذاكرة الإنسانية مهما تناءت عنها..

الغرب، وبسبب عزلة الفرد فيه، عاد إلى الحكواتي في رغبة لاستعادة التماسّ الإنساني الحار الذي لا يعوضه التلفزيون. لكن آخرين يؤكدون أن الفعل السحري للحكايات على النفس الإنسانية، تجعل عودة الحكواتية، بصيغهم الجديدة والقديمة حاجة ملحّة للمجتمعات.

سألته عن مهنته ونحن نحتسي القهوة في مقهى صغيرة أمام الكاتدرائية: هل أنت راوية حكايات يا كارلوس؟.

قال: أنا رجل جوال بلا مهنة محددة مثل كل الحكواتيين، لن أقول إنني مخرج سينمائي ولا راوية حكايات ولا كاتب قصة، لدي مشروع إنساني واسع أحاول إنجازه بالحكاية والسينما والمسرح والتصوير والقصّ، وأفضّل أن أقدم رؤيتي عن العالم ومصير الإنسان عبر الحكي والأفلام الوثائقية والفيلم الطويل..

لِمَ لا؟؟ اعترف أنني تأثرت كثيراً بماركيز والخرافات اللاتينية والأساطير البابلية، بخاصة ملحمة كلكامش، وقصيدة الخليقة التي استخدمت عناصرها في حكاياتي عن خلق العالم، أستقي حكاياتي من مصادر متعددة وأزاوج بينها، أستخدم عنصراً محدداً وأخلق انسجاماً خاصاً بين عناصر الحكاية.

التقيت كارلوس للمرة الأولى في جزيرة «لاس بالماس» من جزر الكناري، وكنا نحضر مهرجان مسرح القارات الثلاث، هو لسرد الحكايات على المسرح وتوثيق وقائع المهرجان، وأنا لحضور ندوة الرواية مع روائيين من كولومبيا والبيرو وغامبيا والبرازيل وكوبا وموزامبيق وإسبانيا، في قرية اكويماس الجميلة الباهرة مثل تحفة انبثقت من مخيلة خوان ميرو، والمرة الثانية في باريس حيث يقيم غالباً، قال لي وهو يسجل لي لقطات لفيلم وثائقي عن الروائيين الذين حضروا الملتقى: البابليون أثرياء بأساطيرهم التي سبقت كل ما عداها في ابتكار فكرة التسمية، أسلافك هم أول من أطلق الأسماء على الأشياء فانوجدت، أتعرفين ذلك؟ لا شيء يوجد قبل أن يسمَّى، فكرة الخلق البابلية تفردت في ذلك، أن تسمي الشيء فيوجد، فكرة مثيرة.. سفر التكوين مؤسس على فكرة الخلق في القصيدة البابلية، لأنها سبقته ورسخت في ذاكرة البشر موضوعة التسمية..

يستلهم كارلوس آداب الحضارات القديمة وقصص الحب وتنويعات الخوف البشري، كما يستمد مادته من حكايات القبائل في أميركا اللاتينية وإفريقيا، ومن موضوعة الموت التي أرّقت كلكامش وراح يبحث عن حل لغزها في رحلاته الكونية..

تقوم الحكاية لديه على خبرات ثلاث: خبرة المخيلة، خبرة المعيش اليومي، والحكاية الشعبية..

الحكي مهنته الأقرب إلى نفسه. يقول: «مهنتي إسعاد الناس»، يرتجل، يمثل، يطرح تساؤلات، يوجه أنظار الجمهور إلى زوايا نظر تغير من طريقة تعاملهم مع الموجودات وتخلصهم ولو لبرهة من انسحاقهم في رحى الزمن الأرضي..

عاش زمناً مع القبائل في أواسط إفريقيا وجنوبها، كان يبحث عن موضوعة الخليقة واستمع إلى أساطير الخلق لدى قبائل مختلفة، توصل وإياهم إلى تشكيل صيغة جديدة لفكرة الخليقة، وكان رواة القبائل يحكون أسطورتهم المختلفة عن الخلق، ويزودونه بإضافات حيوية تعزز أداءه على المسرح..

لطفية الدليمي: خبرة الحكي وأصل الحكاية
 
21-May-2009
 
العدد 77