العدد 77 - ثقافي | ||||||||||||||
رسمي أبو علي تحدث النقاد عمّا أسموه «لعنة محمد شكري»، مشيرين إلى أن هذه اللعنة ليست إلاّ رواية شكري الأولى ذائعة الصيت «الخبز الحافي» التي بقدر ما أطلقت شهرته شكري عربياً وعالمياً، تحوّلت في ما بعد إلى لعنة وقفت عائقاً أمام أعماله اللاحقة التي بدا وكأن القراء رفضوا منحها أيّة أهمية، واضعين نصب أعينهم «الخبز الحافي» بفضائحيتها وروائح الجنس المكشوف التي تفوح منها، كنموذج توقعوا أن يكرره شكري في بقية كتبه، ولما لم يتحقق ذلك، بدا كأنهم أُصيبوا بخيبة أمل، ربما أصابت في الحقيقة، شكري أكثر مما أصابتهم، ذلك أنه كان يطمح إلى أن يُنظر إليه بوصفه كاتباً حقيقياً بعيداً عن «الخبز الحافي» والجوانب غير الأدبية التي أثارتها. من المفارقة أن يتحول العمل الذي أطلق شهرة الكاتب إلى عائق وسد منيع أمام قراءة أعماله اللاحقة، مهما كان مستوى هذه الأعمال.. ويبدو أن هذه اللعنة ليست خاصة بمحمد شكري، إذ إنها أصابت كتاباً آخرين، منهم، على سبيل المثال: فرانسوا ساجان، التي كتبت روايتها «صباح الخير أيها الحزن»، وهي في الثامنة عشرة. وحققت من خلالها شهرة عالمية مدوّية، كانت أيضاً سبباً لعدم النظر إلى أعمالها اللاحقة بالتقدير الذي تستحقه، بخاصة أن العديد من تلك الأعمال تجاوز روايتها الأولى. هذه اللعنة تصيب بعض الشعراء أيضاً، وكادت تصيب الشاعر الراحل محمود درويش من خلال قصيدته «سجّل أنا عربي» التي ترسخت في أذهان الجمهور بحيث صار يطالب بسماعها فور أن يعتلي الشاعر منصّة الإلقاء حيثما ذهب، لكن درويش كان واعياً للمسألة، ومقاوماً لدكتاتورية الجمهور الذي يحب أن يسمع ما يعرف غالباً، لذلك وصل الأمر بدرويش إلى رفض إلقاء تلك القصيدة مضحّياً بقدرٍ من شعبيته، لكن منتقداً شعره من أسر القصيدة الواحدة أو ما يشبهها. عودة إلى لعنة شكري التي يبدو أنها أصابت عدداً من كُتّاب المغرب من الجيل اللاحق لشكري، منهم محمد زفزاف، القاص والروائي المغربي الذي رحل قبل ثلاث سنوات بعد أن ترك ست روايات وثلاث مجموعات قصصية أشهرها «الملاك الأبيض». يبدو زفزاف في روايته الأخيرة «بيضة الديك» (منشورات المركز الثقافي العربي، 2007) وكأنه يواصل النسج على منوال «الخبز الحافي»، مرة أخرى، بل مؤكداً هذا الأمر، حيث يشير، في أحد فصول الكتاب على لسان أحد أبطاله إلى أنه متعطش لزيارة محمد شكري في مراكش ليحمل إليه عدداً من زجاجات الويسكي المهرّبة وأشياء أخرى ممنوعة بعد أن عرف أن شكري يفطر على نصف زجاجة ويسكي. زفزاف، لا يخفي إعجابه بشكري، لكنه، مع ذلك، لا يسير تماماً في طريقه رغم أنه يختار المسرح نفسه الذي تجري عليه الأحداث (الدار البيضاء)، حيث لا يمكن لأي شاب مغربي قادم من خارجها، إلاّ أن يقدم تنازلات مؤلمة إذا أراد أن يعيش فيها: «يمكن للمرأة أن تتعَجّب قليلاً، أقصد حتى زوجتك أو أختك أو ابنتك. كما يمكنك أيضاً أن تكشف عن أعضائك، إذ إن هناك الكثير من الشواذ الذين يرغبون في رؤيتها - كما أن عليك أن تكذب قليلاً أو كثيراً وأن تنافق، ومن دون ذلك لا تستطيع أن تعيش». هذا الواقع المأساوي جعل زفزاف يطلق صرخة مريرة على لسان «جيجي»، الفتاة التي هربت من أهلها في مراكش، إثر اكتشافهم علاقة غرامية بينها وبين أحد الشبان. تصرخ «جيجي» المتعلّمة قائلة: «كيفاش؟ العالم كله مزيان إلاّ المغرب، لقد درسنا في التاريخ إننا كنّا في الأندلس، وبعنا واشترينا في الذهب في إفريقيا، وكان الرخاء موجوداً والحياة جميلة، والعلماء موجودون أيضاً، فكيف أصبح الجامعيون يتسكعون في الشوارع يشربون الكحول ويتحششون؟». يصطحبنا زفزاف إلى أحد الأحياء الفقيرة في الدار البيضاء، حيث «الحاجة» التي كانت يهودية ثم أسلمت بعد أن تزوجت من «السي العربي»، الفحل عريض الأكتاف. لكن الأحداث تسير في اتجاه آخر، حيث تتخذ من الشاب عمر عشيقاً لها مقابل تأمين كل احتياجاته، وستراً لما تقوم به، فإنها تشيع أنه ابنها. وفي المكان أيضاً «رحّال»، الشاب الذي يصر على الاحتفاظ ببعض الكرامة عندما يرفض أن يكون مخبراً أو قوّاداً لكنه في الوقت نفسه على علاقة بـ«جيجي» فتاة البار، التي تحصل معها «بيضة الديك» بزواجها من مدير البار، الذي سرعان ما يموت، تاركاً لها، وهو المقطوع من شجرة، ثروة لا بأس بها، سوف تضعها بتصرف «رحّال» الذي تحبه. أما بخصوص تسمية «بيضة الديك» لواقعة زواجها من مدير البار، فربما أن تلك التسمية لم تكن مناسبة لوصف تلك الواقعة، فبيضة الديك عمل فني فريد يقوم به فنان، ويطلق شهرته ولا يقوم بعمل غيره، أما في حالة «جيجي» فالذي حدث، هو صدقة حسنة بالنسبة لها، ولا يمكن وصفها ببيضة ديك أو حتى دجاجة. إذن، فزفزاف مثل معلمه شكري، يختار عالم الشبان والبنات الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى حياة الليل والبغاء والقوادة، حيث لا يجدون عملاً آخر.. فالرواية ليس مقصوداً بها الفضائحية بقدر ما هي تكشف واقعاً مأساوياً يبدو أن المؤلف وأبطاله يتقبلونه مفلسفين الأمر بألوان من الحكمة الشعبية. زفزاف يستلهم هذه الروح الشعبية ولا يخرج عنها مستخدماً لغة بسيطة تكاد تكون ساذجة للوهلة الأولى، لكنها مشحونة بسخرية مستفيضة تعكس ألماً يحاول أن يداري نفسه. |
|
|||||||||||||