العدد 77 - أعلام
 

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.

فيصل دراج

إضاءة شمعة خيرٌ من هجاء الظلام. هذا ما يقول به مسارُ التنويري اللبناني رئيف خوري (1912 - 1967)، الذي وسّع مجال النور بإضاءة شموع كثيرة.

تمتّع خوري، الذي حاور طه حسين في موضوع ثقافة العامة وثقافة الخاصة، بصفات رئيسية ثلاث: ثقافة موسوعية جمعت بين القديم والحديث واللغة العربية واللغة الفرنسية، والبعد عن الترف الثقافي والانصراف إلى قضايا اجتماعية ووطنية مشخصة، والعمل على تحويل الوقائع الثقافية إلى وقائع سياسية، عن طريق التوجّه المباشر إلى البشر واستنهاض إرادتهم. ولعل أولوية التحريض التربوي على الثقافة الكُتبية هي التي قادته، مثل غيره من التنويريين الروّاد، إلى التعامل مع ألوان كتابية متعددة: دراسة التراث العربي القديم، ممارسة النقد الأدبي، كتابة المقالة السياسية والرواية التاريخية، التأمل النظري لمعنى القومية والديمقراطية والطائفية،... هذه الممارسات جعلت من حياة رئيف نصاً كبيراً، يتجاوز نصوصه التي كتبها، وتلك التي لم يسمح له الزمن بكتابتها.

وُلد رئيف في قرية «نابيْة»، في منطقة المتن الشمالي في لبنان، والتحق، بعد دراسته الثانوية، بالجامعة الأميركية في بيروت، حيث درس الأدب العربي وتاريخ الآداب الشرقية، وانتهى معلماً لسنوات طويلة. غير أن ما جعل منه مثقفاً حديثاً بامتياز، أنه جاء من السياسة والصحافة والعمل الثقافي الجماعي. فقد شارك، حين كان معلماً في فلسطين، في ثورة 1936 وأسهم العام 1939 في إعداد «المؤتمر الأول لمكافحة الفاشية»، وتأسيس «عصبة مكافحة النازية والفاشية»، التي مهدت لصدور «الطريق» اللبنانية (1941)، المجلة التي استمرت أكثر من خمسين عاماً. آمن بأن الثقافة، في معناها العميق، ليست ملكية خاصة، تخضع لمعايير العرض والطلب، بل هي شكل من السلوك الاجتماعي، يرفض الزيف والتكسّب، ويتطلع إلى الحقيقة والمصلحة العامة.

ترجمَ رئيف أولوية العمل على النظر بسياسة كتابية، أو بسياسة في الكتابة، تعيد طرح القضايا الثقافية بشكل نقدي، وتتطلع إلى قارئ فاعل مرتب الأفكار واضح النظر.

دفعته خبرته في المجال التربوي، كما إدراكه أهمية المناهج المدرسية، إلى اهتمام خاص بالتراث العربي القديم، محاولاً شرحه بفكر علمي، يربط بين الظواهر الثقافية والاجتماعية والأسباب المادية التي قادت إليها. أنجز في هذا المجال دراسات عديدة: «امرؤ القيس - نقد وتحليل» (1934)، «وهل يخفى القمر؟ - بحث في حياة عمر بن أبي ربيعة» (1939)، و«ديك الجن - الحب المفترس» (سرد روائي لسيرة الشاعر ديك الجن، 1948).

سعى رئيف في دراساته التراثية إلى قراءة الماضي بمعرفة من الحاضر، متطلعاً إلى تحقيق غايتين: شرح الأفكار الحديثة بشكل تطبيقي، والانتقال بالتراث من حيّز البداهة الراكدة إلى فضاء النقد والمساءلة. حوّل رئيف، وهو يقرأ الماضي بمناهج حديثة، التراث البعيد إلى وجه من وجوه الثقافة الوطنية المعاصرة، قائلاً بترهين الموروث وبقراءة التراث بمعرفة متقدمة عليه.

يقول مؤرخ متخيّل، في كتابه «مع العرب في التاريخ والأسطورة»، لمؤرخ آخر: «إنك تملأ إناء الماضي مادةً من الحاضر»، فيجيبه: «ذلك خير من أن نملأ إناء الحاضر مادة من الماضي. ومع ذلك ففي الحاضر من الماضي مادة لا تُنكر، ولولا الشوق إلى فهم الحاضر والمستقبل لما كان لتفهّم الماضي معنى، والنظر إلى الوراء جزء من النظر إلى أمام». لم يكن ذلك المؤرخ، الذي يرهّن الماضي ويأبى تسليف الحاضر، إلا رئيف خوري، الذي قرأ امرأ القيس وديكارت وعمر بن أبي ربيعة وكارل ماركس، من وجهة نظر المعرفة الموضوعية، لا من وجهة نظر الأسماء المقروءة.

النظر إلى الوراء نظرٌ إلى أمام، وتاريخ الأمم يتناول حاضرها ومستقبلها، ولا يقتصر على ماضيها. يقول رئيف: «الاطلاع على الماضي لمجرد الاطلاع، لا لفائدة نجنيها من أجل الحاضر والمستقبل... هذا الاطلاع هو محض سخافة، ومحض تبذير للجهد». اتكاءً على هذا المنظور، وازن رئيف بين دراسة الماضي والبحث عن وسائل تصنع المستقبل، ووضع كتابه الشهير «الفكر العربي الحديث» (1943) الذي عرض فيه أثر أفكار الثورة الفرنسية في النهضويين العرب، بدءاً بالطهطاوي وانتهاء بسلامة موسى، مروراً بالكواكبي ومحمد عبده وولي الدين يكن.

توقف الكتاب أمام المقولات الأساسية لهؤلاء النهضويين: العداء للإقطاع والكنيسة والتزمّت الديني بعامة، الديمقراطية والمجتمع المدني، بناء المجتمع الجديد والفكر العلمي.

لمس رئيف البعد العملي للأفكار الوافدة، التي تحضّ على تجاوز المجتمع العربي لتخلّفه، مبيّناً أن إقبال هؤلاء النهضويين على الفكر الثوري الفرنسي كان تأثراً وتحويلاً في آن، فقد تعاملوا معه من وجهة نظر القضايا الوطنية الواجب حلّها. وهذا البعد الأساسي، الذي يصيّر الثقافة الوافدة إلى جزء داخلي من الثقافة الوطنية، هو الذي وضع في الفكر النهضوي جملة من الاتجاهات المتعارضة والمختلفة، بل المتناقضة في بعض الأحيان.

أوكل خوري إلى الفكر النهضوي النقدي وظيفتين متكاملتين: وظيفة أولى تبشّر بالأفكار الكونية القائلة بالحرية والمساواة والعدالة، وغيرها مما يحيل على حقوق الإنسان أو ينطلق منه؛ ووظيفة معرفية محددة، تعيد قراءة الماضي العربي بشكل نقدي، وتفتح أفقاً مستقبلياً يعيد للأمة العربية دورها الحضاري.

في مقدمة كتابه «الفكر العربي الحديث»، يقول: «يحتاج البحث في الثقافة العربية إلى تصفيته من النظرات الرجعية لإبراز حقيقة الجوهر في النهضة العربية والثقافة العربية. ذلك أن هذا الجوهر القومي بالضبط هو اليوم عرضة لمؤامرة صمت وتشويه من قبل كثير من الباحثين».

نقد رئيف الرجعية مدافعاً عن العروبة، وتحزّب للأفكار العلمية والديمقراطية مواجهاً باحثين يشوّهون صورة الإنسان العربي. ولهذا هتف: «التراث القومي العربي، نحن حماته ومكمّلوه»، وهو عنوان محاضرة له في دمشق العام 1942، وتحدث عن «تقليدنا العربي الثوري»، الذي يرفض اغتصاب حقوق الإنسان، و«تراثنا العربي العظيم الذي نرفع رايته بزهوّ عظيم».

لم يفصل رئيف بين هذا التراث وظهور الإسلام، الذي جاء بقيم نبيلة سامية. يقول في هذا المجال: «لقد قبّح الإسلام الخلافات القبلية التي تمزّق الكيانَ العربي وتُذله، وحطّم الأصنام وكانت شعاراً لتفرّق العرب وتأخرهم الفكري، وأنهض مستوى المرأة، وحارب كَلَب التجار الأغنياء في مكة، وأيّد الفقراء، ودعا إلى كفاح الجهل والظلم والذل وكل ما يمسخ إنسانية الإنسان».

جمع رئيف خوري بين ماركسية متحررة، تُعلي من قيمة الإنسان وعقله، ووعي قومي حديث، يقرأ الماضي بوعي من الحاضر، ومنظور تاريخي يرى الإسلام في أبعاده التحررية العظيمة. أدرك مبكراً أن قيمة الأفكار والعقائد تتأتى من دورها العملي في الارتقاء بالإنسان، لأن البلاغةَ التي لا تأتي بجديد، عبثٌ بالعقل وإهدارٌ للوقت في آن.

على خلاف جيل من الماركسيين والقوميين رأى في الديمقراطية، لفترة طويلة، شعاراً برجوازياً، مستبدلاً بالديمقراطية المرفوضة شعارَ «الثورة»، رأى رئيف خوري في الديمقراطية شرطاً ضرورياً لارتقاء المجتمع وتفتح الأفكار الجديدة. قال في مقالته «حقوق الإنسان، من أين وإلى أين المصير»، المنشورة في مجلة «الطليعة» العام 1937: «لنا سبيل واحد هو الديمقراطية، ولو بشكلها البرجوازي، زمان كانت البرجوازية ثورية تقدمية». الديمقراطية حق من حقوق الإنسان، وشرط تربوي لا إمكانية لتربية وطنية من دونه»، بل إنه رأى، ومنذ أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، في الديمقراطية، مدخلاً إلى الوحدة العربية، قبل صعود أيديولوجيات شعبوية، تقوّض أسس الوحدة وهي تدعو إليها: «يجب أن يكون لنا الآن شعار واحد هو الديمقراطية»، فهي «أمتن رابطة تربط الأقطار العربية بعضها ببعض، وتسهّل عليها تفاهماً واتحاداً ديمقراطياً في المستقبل يتخذ أكثر الأشكال موافقة للظروف التي يتحقق فيها».

برهن خوري، وهو يلتزم بفكرة الديمقراطية، عن بصيرة تنويرية نافذة: لا إمكانية لتحرر الإنسان من دون الاعتراف بحقوقه، ولا إمكانية لنهوض قومي في شرط مستبد، لأنّ القومية تحيل على أفراد أحرار قبل أن تستدعي عناصر شكلانية مثل اللغة والتاريخ ووحدة المصير، ولا إمكانية للوحدة العربية في شرط يحتفي بالشعار ويقمع المنتمين إليه.

لذلك رأي رئيف سقوطَ الوحدة المصرية-السورية (1959) قبل حدوثه. فقد جاء في الكلمة التي ألقاها أمام عبد الناصر، في ذلك التاريخ، باسم المثقفين اللبنانين الذين وفدوا إلى دمشق: «الديمقراطية يا سيادة الرئيس... الديمقراطية هي الضمان الأكيد لاستمرار الوحدة ولامتداداتها إلى البلدان العربية الأخرى...». أفضى غياب الديمقراطية إلى نهاية الوحدة، التي أُوكلت حمايتها إلى أجهزة بوليسية، فصلت بين الوحدة العربية وحقوق الإنسان العربي.

وحّد رئيف، في منظور تربوي واسع، بين تهذيب التراث ومحاربة الطائفية، وبين الدفاع عن «الأدب المسؤول» وقضية فلسطين، فقد رحل إلى فلسطين العام 1935، وعمل مدرّساً في القدس وتنقّل، أثناء ثورة 1936، بين المدن والقرى الفلسطينية، محرّضاً على الانتفاضة ضد الإنجليز والصهاينة. ووضع في تلك الفترة كتابه الكفاحي «جهاد فلسطين»، الذي نُشر العام 1936 بتوقيع «الفتى العربٍي». جاء على غلاف الكتاب: «يُرصد ريعه لمجاهدي فلسطين»، يتلوه عنوان فرعي: «كفاح العرب في سبيل الحرية والاستقلال»، يعقبه عنوان آخر: «الثورة الفلسطينية في مختلف مراحلها». بدا الكتاب، في ذاك الزمان، أشبه ببرنامج للثورة الوطنية، التي يصوغها العرب جميعاً.

انطوى مسار رئيف خوري، الذي توفي في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 1967، على سيرة مثقف لبناني يقرأ ماركس وروسو ويحلّل شعر عمر بن أبي ربيعة، وينتقل من الجامعة الأميركية في بيروت إلى قرى فلسطين الثائرة، ويخبر جمال عبد الناصر أن وحدة مصر وسورية لن تعيش طويلاً. وهذه السيرة هي سيرة تكوّن المثقف العربي الحديث، الذي يملأ «إناء الماضي بمعرفة من الحاضر»، ويعلن أن الحاضر الذي يقتات بالماضي يبدّد الماضي والحاضر معاً.

رئيف خوري: تنويري لبناني اقترح وظيفتين للفكر النقدي
 
21-May-2009
 
العدد 77