العدد 77 - الملف
 

مؤيد العتيلي

على دأبهم كل عام، عقد المشاركون في مؤتمر دافوس مؤتمرهم في المدينة السويسرية الصغيرة في موعده المحدد العام 2000. لم تكن هنالك أي إشارات إلى حركة الاحتجاجات الواسعة التي ستقع ضد المؤتمر والمشاركين فيه بوصفه مؤتمراً تعقده الرأسمالية المنتصرة في معركتها مع الاشتراكية، والتي مثل سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي نهاية اعتبرتها سعيدة لها.

غير أن حركة الاحتجاجات الواسعة التي شاركت فيها أجيال شابة، جاءت لتعلن أن الفكر اليساري ما زال حاضرا، وأن سقوط التجرية الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي لا يعني سقوط الفكر الاشتراكي، الذي ما زال يتمتع بقدرة على تطوير نفسه، وعلى طرح بديل للرأسمالية التي «توحشت» بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

وقد حاول اليسار العالمي أن يثبت ما يقوله، ليس من خلال التظاهرات العنيفة التي شلت المدينة الجبلية لدى انعقاد المؤتمر للمرة الثانية في العام 2001، بل ومن خلال التنادي لطرح بديل للفكر الرأسمالي الذي يعبر المؤتمر عنه.

العام 2001 أثمرت الاتصالات عن انطلاق مسيرة «المنتدى الاجتماعي العالمي»، وهو الاسم الذي اختير لمؤتمر «دافوس البديل»، في دورته الأولى، الّتي عقدت في شهر كانون الثاني/يناير من العام المذكور في مدينة «بورتو أليغري» في البرازيل، وهي مدينة ذات تاريخ طويل في الانتماء إلى اليسار، مقرا لأول مؤتمر بديل لمؤتمر دافوس.

عقد المؤتمر البديل بالتزامن مع انعقاد منتدى دافوس في سويسرا. وشارك في أعمال المنتدى البديل ما يقارب 10 آلاف مشارك يمثلون العديد من منظمات المجتمع المدني في مختلف البلدان، وفي مقدمتها اتحادات النقابات العماليّة الأوروبية والأميركيّة اللاتينيّة والآسيويّة وغيرها.

وقد أقرّ المنتدى حينها مبادئ عامّة تبيّن ماهيته وأهدافه وطبيعة المؤسسات المشاركة فيه. وتم الاتفاق على أن يشكّل هذا المنتدى فضاءً واسعاً للحوار بين مختلف القوى ومؤسسات المجتمع المدني، يتم فيه تدارس السبل الممكنة لمواجهة قوى العولمة الرأسماليّة ومناهضتها، على أن تنحصر المشاركة في أعماله في مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكوميّة فقط، ما يعني إبعاد المؤسسات والهيئات الحكوميّة والحزبيّة كافة عنها.

واصل المنتدى عقد دوراته، حيث عقد في العامين 2002 و2003 في البرازيل، وفي العام 2004 انتقل إلى الهند تطبيقاً لمبدأ أقرّه المنتدى بتوسيع المشاركة على المستوى العالمي، ومراعاة للعدالة في الاهتمام بالقضايا والهموم الإنسانيّة. وفي العام 2005 عاد المنتدى ليعقد دورته الخامسة في بورتو أليغري – البرازيل.

لم يتح لي حضور المؤتمر الأول الذي شاركت فيه شخصيات يسارية عالمية عديدة من النقابي الفرنسي بوفيه، إلى القائد العمالي، آنذاك، لولا داسيلفا، الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للبرازيل، إلى المفكر الاشتراكي العربي المعروف سمير أمين، وغيرهم من أقطاب اليسار العالمي.

غير أن الفرصة سنحت لي لحضور المؤتمر الذي عقد في المدينة البرازيلية نفسها في دورته الخامسة في الفترة من 26 – 31 كانون الثاني/يناير 2005. وقدر عدد حضور المؤتمر البديل في تلك الدورة بنحو 150 ألف مشارك يمثّلون نحو 150 بلداً.

بورتو أليغري، المدينة البرازيليّة الجنوبيّة البحريّة، ذات الطّبيعة الخلابة، وذات المناخ السياسيّ اليساريّ، شكّلت الحاضنة الأم لانطلاق المنتدى الاجتماعي العالمي، والّذي جاء انعقاده ثمرة لحوارات موسّعة وعميقة بين العديد من قوى ومؤسسات المجتمع المدني العالميّة، وبخاصّة تلك الحوارات المعمقة الّتي تمت بين قوى ومنظمات مدنيّة ذات اتجاه يساري في فرنسا والبرازيل، والتي تمخّضت في نهاية العام 2000، عن فكرة اطلاق «المنتدى الاجتماعي العالمي» ليشكّل إطاراًً واسعاً لبديل اشتراكي تلتقي فيه القوى الاجتماعية كافّة، المناهضة للعولمة الرأسماليّة، وليشكّل هذا الملتقى/ المنتدى مظلّة واسعة المدى لحوارات شاملة بين هذه القوى الاجتماعيّة حول القضايا كافّة الّتي تعاني منها الإنسانيّة مثل: الفقر والبطالة وانعدام الأمن الاجتماعي، إضافة إلى القضايا السياسيّة الكبرى، والّتي اعتبرت مرآة عاكسة لواقع الهيمنة الاقتصاديّة الّتي تمارسها القوى الكبرى الممثلة لمصالح الشركات عابرة القارّات، وليس انتهاء بالهيمنة العسكريّة باعتبارها الأداة الرئيسة لفرض هذه السّياسات الاقتصاديّة.

في ذلك المؤتمر قدم المشاركون، عبر ما يزيد على 2500 فعاليّة، عدا المسيرات التضامنيّة، عن رفضهم المطلق للهيمنة الاقتصاديّة الّتي تمارسها الدّول الكبرى بالتحالف مع الشّركات العابرة للقارات، وعبر مؤسساتها الماليّة المنفذه لسياساتها الاقتصاديّة، مثل: البنك الدولي، وصندوق النّقد الدولي، ومنظّمة التجارة الحرّة وغيرها، فهذه في النهاية هي تركة دافوس والمجتمعين فيها في إطار المنتدى الاقتصادي العالمي والمعروف باسم منتدى دافوس.

كما عبّر المشاركون عن رفضهم المطلق للهيمنة السياسيّة والعسكريّة الّتي تقوم بها الدّول الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركيّة، التي تمثل في النّهاية الاقتصاد الرأسمالي المرتكز أساساً على نهب خيرات الشعوب وثرواتها.

شكّلت الدورة الخامسة للمنتدى – منعطفاً مهماً في مسيرته. تجلّى ذلك في التنامي الهائل في عدد المشاركين، بالإضافة إلى التوسّع الكبير في البلدان المشاركة، وكذلك في تنوع القضايا المطروحة للنقاش والحوار، التي شارك فيها عدد كبير من منظمات المجتمع المدني في الولايات المتّحدة الأميركيّة ومعظم دول أميركا اللاتينيّة، بالإضافة إلى وفود تمثّل القارة الأفريقيّة وشبه القارّة الهنديّة ودول أخرى عديدة، إلى جانب الوفود الأوروبيّة الدّائمة المشاركة في أعمال المنتدى عبر دوراته كافّة .

في المقابل، فقد لوحظت حالة الضّعف الكبيرة للحضور العربيّ في المنتدى، وبخاصة في ظل وقوع إحدى أكبر وأهم دوله، العراق، فريسةً للاحتلال العسكريّ الأميركيّ قبل ذلك بعامين، فقد غابت مؤسسات المجتمع المدنيّ العربيّة عن المشاركة، وفي مقدمتها اتحادات النقابات العماليّة الّتي يفترض بها أن تكون الحارس الأمين لقضايا وهموم ومصالح الطبقات الفقيرة في العالم العربيّ، ربما لضعفها الشّديد، أو لكونها غير موجودة أصلاً، وربما لانحيازها للطرف الآخر المتمثّل في المؤسسات الرسميّة وأصحاب العمل، وهي في كل الحالات غائبة أصلاً عن قضايا وهموم الفئات الّتي يفترض أنّها تمثّلها.

ولكن إن القضيّة الفلسطينيّة عوضت بحضورها الطاغي بعضا من حالة الهزال العربي الذي بدا واضحا للعيان، فقد كانت القضية عنواناً رئيساً من عناوين المنتدى. ساهم في هذا الأمر بالطّبع التضامن والتعاطف الشديدين من قبل الوفود المشاركة، بالإضافة إلى تضامن غالبية الشّعب البرازيليّ المنحاز لقضايا الحريّة والعدالة. كما ساهم في هذا الأمر الدّور الّذي قامت به الجالية الفلسطينيّة في بورتو أليغري، التي تتمتع بحضور قوي داخل المجتمع البرازيليّ.

وبالطبع، فقد كان الوفد الفلسطينيّ المشارك، والّذي كان أكبر الوفود العربيّة، يليه وفدا مصر والمغرب، دور مهم في تعظيم حضور القضيّة الفلسطينيّة إلى جانب العوامل الأخرى. وقد خصص منظمو المنتدى حينها يوم 28 من الشّهر- خلال أعمال المنتدى – لقيام مسيرة عارمة جابت شوارع المدينة تأكيداً على التضامن مع قضيّة الشّعب الفلسطيني وتأييداً لحقّه المشروع في إقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس.

في العام التالي؛ 2006 عقد المؤتمر في كينيا، وفي العام التالي توزع على بلدان ثلاثة؛ إفريقية، هي مالي، وآسيوية، باكستان، وأميركية لاتينية، هي فنزويلا. وفي العام 2007 عقد في كينيا، قبل أن يعود إلى مهده الأول في بورتو أليغري في العامين التاليين.

على أن الحضور العربيّ كان فرديّاً، تمثّل في الحضور البارز للمفكر العربيّ / العالميّ سمير أمين، والّذي ساهم بفعاليّة في أعمال المنتدى وطرح مفهومه الفكري والنّضاليّ لمثل هذه الأنشطة والفعاليّات، فقد كان أحد أبرز نجوم المؤتمر.

البرازيل، الهند، كينيا وفنزويلا المنتدى الاجتماعي العالمي: بديل اشتراكي لـ“دافوس” الرأسمالي
 
21-May-2009
 
العدد 77