العدد 11 - كتاب
 

صدر تقرير اللجنة المالية والاقتصادية في مجلس النواب قبل أيام، وتم نشره بشكل مفصل وبشفافية تامة، وعمق اقتصادي جاد، سواء من حيث عمق التحليل أو الشمولية الدقيقة.

إحدى توصيات اللجنة المالية في البرلمان، ركزت على دراسة سلبيات وايجابيات سياسة الربط بين الدولار والدينار، التي تطرقتُ إليها، بشكل موسع، في أعداد ماضية من جريدة «السّجل». وعلى الرغم من أن هذه التوصية تسد فراغاً كبيراً عانى منه الأردن، فإن ما حصل قبل أيام بالنسبة لتسعير ما يسمى حليب الأطفال «فورميلا» يدعو المرء للتطرق إلى السياسة النقدية مرة أخرى، وذلك للتوثيق وللتأكيد على ما يجابه الأردن من تحديات في مجابهة الغلاء المستورد، وضرورة استغلال الأدوات المتاحة أمام الحكومة من سياسات مالية ونقدية في مجابهة ارتفاع الأسعار. قبل أيام دار جدل بين مستوردي حليب الفورميلا ومؤسسة الدواء والغذاء، انشغل به آباء وأمهات الأطفال حين قررت مؤسسة الدواء والغذاء رفع سعر حليب الفورميلا بـنسبة 17 بالمئة اعتباراً من الشهر القادم، وذلك لأن الدولار (ومعه الدينار) انخفضا بنسبة 17 بالمئة أمام باليورو، حسب ما صرّح به مدير مؤسسة الغذاء والدواء، مما جعل سعر هذة المادة الغذائية المهمة للأطفال الرضع يرتفع 17 بالمئة.

الآباء والأمهات لم يكونوا راضين عن ارتفاع السعر الذي سيمثل عبئاً إضافياً عليهم، في ظل ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمواد الأساسية. أيضاً، المستوردون يطالبون برفع سعر هذه المادة، يسبب انخفاض الدولار (ومعه الدينار) الذي انخفض أمام اليورو بنسبة 43 بالمئة في الأعوام الخمسة الماضية وبالتالي أي زيادة في السعر بأقل من هذه النسبة من شأنها تخفيض عوائدهم وتقليل هامشهم الربحي من استيراد هذه السلعة. أيضاً الحكومة، وكما تبين بوضوح سياساتها التي صدرت مؤخراً مثل: التوجه لإعفاء الباصات والحافلات المستخدمة للنقل العام من الضرائب الجمركية بهدف تحديث شبكة المواصلات العامة، وإعفاء الانترنت من ضريبة المبيعات، الحث على ترشيد استهلاك الطاقة من خلال الحوافز الضريبية المباشرة، دراسة إزالة دعم الأعلاف مرة أخرى، وتثبيت أسعار السلع الأساسية وإعفائها، لا ترغب في رفع الأسعار على المواطن بشكل يؤذيه بخاصة وأن هذه السلعة ضرورية للأطفال.

من منهم على خطأ؟ الواقع أن جميعهم على صواب، فجذور المشكلة تكمن في أن الابقاء على سعر صرف الدولار مقابل الدينار على ما هو عليه منذ العام 1995 وحتى الآن، على الرغم من تراجع الدولار أمام اليورو بما يزيد على 60 بالمئة منذ العام 2000 جعل المستوردات باهظة التكلفة. هذا الأثر السلبي يفاقم ارتفاع أسعار المواد الأساسية في العالم ومنها الحليب، الذي ارتفع مؤخراً 47 بالمئة، والنفط الذي ارتفع 300 بالمئة منذ احتلال العراق في 2003. الحكومة لا تفرض ضرائب كالمبيعات أو الرسوم الجمركية على الفورميلا، وبهذا تكون الحكومة قد قامت بدورها في تخفيض السعر على المواطن، من خلال ما تمتلك من أدوات، وهي السياسة المالية التي تتمثل في الضرائب والإنفاق. أما السياسة النقدية التي انفصلت مؤخراً عن السياسة النقدية للبنك الفيدرالي الأميركي بعد سنوات طويلة من الارتباط المباشر بأسعار الفائدة، فهي سياسة تفترض بديهياً أن الإبقاء على الفارق بين سعر الفائدة بين الدولار والدينار في الأردن سيؤدي إلى عدم الدولرة «استبدال الدينار بالدولار»، على الرغم من أن سعر الدولار كان قد أخذ بالتآكل أمام العملات الرئيسية في العالم.

ساهم تراجع قيمة الدينار بتعرض الأردن لتقلبات الأسعار، فأصبح الغلاء فيه ضحية لهبوط سعر الدولار، وذلك على الرغم من أن صادرات الأردن تفوق استيراده ثلاثة أضعاف وتفوق نسبة عجزه التجاري نصف حجم الاقتصاد الكلي، بعكس أميركا التي لا تشكل التجارة الخارجية بالنسبة لها سوى أقل من 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بسبب حجم الاقتصاد الأميركي وتنوعه الذي يبلغ ألف ضعف حجم الأقتصاد الأردني. السؤال هو: هل كانت هذه المعضلة ستحدث لو أننا أبقينا، وبكل بساطة، على مبدأ الربط بين الدينار والدولار، وأعدنا تقييم الدينار ارتفاعاً بالنسبة للدولار بحيث لا يتأثر الدينار بارتفاع سعر اليورو أمام الدولار الأميركي أو الدولار الكندي أو اليوان الصيني؟ من الواضح أن نسب الغلاء التي حدثت وستحدث ما كانت لتصير اذا ما ارتفع سعر الدينار مقابل الدولار ليصبح الدولار أقل من 71 قرشاً.

من الواضح أيضا أنه كان بإمكان الأردن في العام 2004 حين كان معدل النمو الاقتصادي 8.7 بالمئة أن يرفع سعر الدينار دون أي داع للحديث عن السلبيات أو حتى الحوار فيها.

كم تكلف الأردن من خسائر نتيجة عدم التحرك آنذاك؟ ربما مئات الملايين من الدنانير التي كان سيوفرها في الإنفاق على الدين العام والمستوردات، ولما أصبح التحدي الآن ذلك المثلث الصعب: بطالة، وفقر، وغلاء. التحرك السريع في تفعيل السياسة النقدية أصبح أمراً إلزامياً، ربما من أجل الأطفال الرضع، وقبل أن تختفي مادة الفورميولا من الأسواق.

 

 

د. يوسف منصور: الدولار وحليب الفورميولا
 
24-Jan-2008
 
العدد 11