العدد 76 - ثقافي | ||||||||||||||
أحمد النعيمي* في عالم اليوم ستة آلاف لغة، واللغة العربية واحدة من لغات الكوكب الثماني الأكثر انتشاراً في العالم، وترتيبها السادس من حيث عدد المتحدثين بها، وتسبق في ذلك اللغتين الفرنسية والألمانية... هذه الحقائق وغيرها تناولتْها منى محمد طلبة في بحثها المنشور في مجلة «عالم الفكر» (ع 33، 2004) بعنوان: «عالمية الأدب من منظور معاصر». هذه اللغات في تناقص، فلا يكاد يمر عام إلاّ وتختفي به لغة أو أكثر منها، وبعض اللغات أمْسَى مقتصراً على جيل من العجائز الذين هاجر أبناؤهم وأحفادهم إلى أرجاء العالم طلباً للرزق، وأغلب هؤلاء نسوا لغتهم وماضيهم أيضاً. وبعض هذه اللغات محكيٌّ أو شفويٌّ، وليس مكتوباً، وسينقرض عاجلاً أو آجلاً. أمّا العربي، فقد دأب منذ أصابه الوهن والضياع، على البكاء على لغته دون توقف، وكأن العالم مسؤول عن انحطاطه الحضاري والصناعي والزراعي والتقني، وتخلفه الإبداعي والفكري، وقد وصل هذا التخلف درجة ظنَّ فيها بعضهم أن مشكلة العربية تكمن في فئة من الشبان الذين يدسّون كلمات إنجليزية في جُمَلهم العربية، وكأن هؤلاء الشبان قد وُلدوا من «جِنْيَّة» أو «إنْسِيَّة» عاقّة، وليسوا أبناء أمتنا. الحديث اليوم يتكاثر عن اللغة العربية بوصفها لغة عظيمة في زمان سقيم، وبوصفها لغة تعاني من سطوة اللغات الأخرى عليها -بخاصة الإنجليزية- وهو حديث يجعل المرء يتخيل أن اللغة محفظة نقود، يمكن أن يسرقها لص محترف إذا ما استغبى صاحبها. الذين يتناولون موضوع العربية اليوم ينقسمون إلى فئات وتيارات، أولها: فئة الصقور، وهؤلاء يسعون لأن تكون اللغة العربية المستعملة اليوم هي نفسها التي كانت مستعملة في الفترة ما بين العصرين الجاهلي والعباسي، وإذا قبلوا بلغة العصر العباسي الأول فإنهم، بالكاد، يقبلون بلغة العصر العباسي الثاني. وثانيها: فئة المحافظين، وهؤلاء يريدون لغة عربية -أيّاً كان زمانها- فصيحة نقية خالية من أيّ إضافة سوى ما تسمح به مجامع اللغة العربية. وثالثها: فئة المتباكين، وقد دأبوا على الضرب على الصدور واللطم على الخدود في الصحف والمجلات بمناسبة ومن دون مناسبة، وغالباً ما يحتار الإنسان في الذي يريدونه. ورابعها: فئة الحداثيين والتقدميين، وهؤلاء يريدون لغة ابنة زمانها، بصرف النظر عن مرجعياتها، وحجّتهم أن الحضارة الإنسانية اعتادت على التعامل مع الأقوى صناعياً وزراعياً وتقنياً وعسكرياً ومدنياً، واستقبال لغته، بصرف النظر عن أصولها ودياناتها ومعتقداتها، ويذهبون إلى أن كثيراً من المفردات العربية ما زالت موجودة في اللغات العالمية؛ لأن الشيء يعود إلى مبدعه، وبالمقابل على العربي أن يقبل مفردات صناعية وزراعية وطبية لم يكن له يد في اختراعها واجتراحها وإبداعها. ربما يكون هناك فئات وتيارات أُخرى، غير أنه للعربية اليوم أكثر من متحدث وأكثر من لغة، فهناك لغة الأكاديميين في تخصصات الشريعة الإسلامية وأقسام اللغة العربية، وهناك لغة الأكاديميين في التخصصات العلمية، وهناك لغة الأدباء، وهي لغة لها خصوصيتها وسلاستها، وهناك لغة العامة من أجيال ما قبل ثورة الإنترنت، ثم لغة العامة من جيل الإنترنت والتقنيات الحديثة. ذهن الإنسان المعاصر محتشد بالآلات والصناعات والتقنيات والعلوم الطبية والطبيعية والزراعية والهموم اليومية والأمراض العصرية والأشكال الإبداعية، والاختلافات الفكرية، وغير ذلك الكثير. وبالتالي على أهل اللغة أن يكونوا أكثر رأفة به، وأن يحددوا له معنى واحداً للمفردة أو الكلمة الواحدة، وأن يكون رسم الكلمة متوافقاً مع إملائها. فما الفائدة أن يُمتحن الطالب بكل أسماء السيف في العربية: (السيف، المهند، الحسام، المصقول...)، رغم أنها ستعود إلى معنى واحد هو «السيف»، وما الفائدة من أن يُعلَّم الطالب أنه ممنوع عليه استخدام «رغم»، حيث يجب أن يقول: «على الرغم من أنه»، والمعنى كله يوصل إلى «رغم أنه» في نهاية المطاف. أمّا في الإنجليزية، التي تدّعي تحديث نفسها باستمرار، فحدّث ولا حرج عن الكلمات التي لا يتوافق إملاؤها مع رسمها، وعن الكلمات التي تأخذ أكثر من معنى رغم التشابه في نطقها، وعن الأفعال الشاذة، وسوى ذلك من التعقيدات اللغوية. هل أصبح الوقت ملائماً للقول: كفى؟ ربما! بخاصة أنّه ينبغي تذكير أهل اللغة أن العامية نفسها تتغير وتتبدل من جيل لآخر ومن بلد لآخر، فقد استعمل أجدادنا «الخوصة» بمعنى «السكّين»، واستخدموا «خاشوقة» بمعنى «ملعقة»، واستخدموا «اسْحَلَةْ» بمعنى «صحن» ، واليوم لا نحن ولا أبناؤنا نستعمل مفردات الأجداد، فهل المطلوب أن نتباكى على الخوصة والخاشوقة ومثيلاتهما؟.
* كاتب وأكاديمي أردني |
|
|||||||||||||