العدد 76 - ثقافي
 

محمد جميل خضر

وسط إضاءة خاصة، تدخل الشاعرة جمانة مصطفى، حافية القدمين، بأسمال ليست تقليدية، وخطوات وئيدة ومحسوبة، تتقدم حتى تصل مقعداً يتوسط خشبة المسرح، تتجاوز المقعد، وتفترش الأرض، وحولها جرأةُ ثوبها المفروش بقبضة شِعر عاتية. وفي المؤثِّثات، بعضُ شمع، ووردة غارقة في أصٍّ بلّوري بلون الفيروز.

وسط هذا الجو المسرحي يأتي أخيراً الشعر، بطريقة إلقاء مغايرة.

يمثل ما تَقدَّمَ أنموذجاً لفكرة مسرحة الشعر، أو كما تحب جمانة أن تطلق عليه «شعر في مسرح». وهي فكرة تأتي في سياق مساحة لا محدودة من التجريب، لا مكان للإبداع من دونها.. وربما في سياق كسر المألوف، أو الرغبة في خلق حالة تداخل مشوّقة بين فنون مختلفة.

في سبيل إيضاح الفكرة، تقسّم جمانة فعل الإبداع الشعري إلى جزأين: القصيدة، ومن ثم قراءتها. وإن كان الجزء المتعلق بطقوس كتابة القصيدة، وروافعها، ومناخاتها، بحسْبها، مسألة خاصة بالمبدع (الشاعر) نفسه، فإن التحرك، يمكن أن يكون كما ترى، في مساحة قراءة القصيدة. وهي مساحة ترى صاحبة مجموعة «غبطة برية» الصادرة العام 2007 عن دار الفارابي، أن العرب حافظوا على مركز صدارة وريادة فيها منذ سوق عكاظ، مروراً على فرادة في الإلقاء تميزَ فيها كثير من شعراء العربية، ممن منحتهم طريقة إلقائهم قيمة مضافة لما تحمله قصائدهم من صور وموسيقى ونبوغ. وليس انتهاء، بمصاحبة عزف عود أو ناي أو آلة موسيقية أخرى، مع قراءة شاعر لبعض منتجه الإبداعي. ما يعني أن فكرة «شعر في مسرح» تصبح بالنسبة لجمانة، مما هو في سياق متواصل، وليست نبتاً شيطانياً هجيناً.

ما يفعله «شعر في مسرح»، كما تقول الشاعرة، هو الكشف عن قيمة بصرية داخل كلمات القصائد، وصورها، وتفاعلاتها مع الفضاء والمعنى والوجود. وهو توجّه يسعى إلى استحضار طريقة جديدة في فاعلية التلقي.

رغم قناعتها أن القصيدة لا تحتاج إلى إسناد، ترى جمانة في مسرحة الشعر، تجريباً لا ضير فيه. وهو اجتراح يوائم بين ثلاثة فنون، يمكن أن يخلق اجتماعها (شعر ومسرح وموسيقى)، جمالية جديدة، لا تمس جمالية كل فن منها على حدة.

بحسّ عميق تقول جمانة: «كل شيء قابل للتجريب»، وترى أنه ينبغي قبل «إعدام أي فكرة تجريبها أولاً».

في سياق «شعر في مسرح» التي تبناها مهرجان «أيام عمان المسرحية» (الفوانيس) في دورتيه الأخيرتين، تؤكد جمانة أنه لم يتم التدخل في طريقة قراءة الشاعر لقصيدته. «التدخل كان في طريقة تعريف الشاعر بمساحات التنفس الموسيقية».

الشاعر موسى حوامدة يرى أن «كل هذه الأشكال لا تعوّض عن الشعر نفسه»، يقول: «المهم أن يكون هناك شعر، والباقي تفاصيل يمكن أن نختلف أو نتفق عليها».

على المنوال نفسه يضيف حوامدة: «الشعر يتحقق بشعريته»، لكنه لا يقفل باب الاجتهاد في هذا المجال.

جمانة تؤكد أن الناس تقبّلت الفكرة، وأن ذائقة التلقي انصاعت دون إكراه، لـ«شكل استماع جديد، لم ينقصه الاستمتاع».

ما أثار إعجابها، مدى تفاعل الشعراء أنفسهم مع الفكرة، وما كشفه بعضهم عن طاقات درامية أدائية، يبدو أنها كانت، كما تشير ببعض مرح، مخبأة، وتنتظر من «يفتح أقفالها».

في سياق متصل يرى المخرج المسرحي التونسي محمّد العونـي أن العلاقـة بين المسرح والشعر، علاقةٌ «إشكالية قديمة حديثـة»، ويذهب إلى أنها «تطرح قضايا فكريـة وجمالية في غاية التعقيـد حول مسألة اللّغـة وماهية الفنـون وخصوصياتها وتداخل الأجناس وتلاقحها».

العوني يقول حول ذلك: «منذ كتاب فنّ الشعر لأرسطو الذي وضع قوانيـن التراجيديا وضبط مفهوم النّص الشعري وزناً وموسيقى ولغةً، والمقاربات النظرية تتصارع حول خصائص الشعـر وخصائص الدراما، بين مجازية الشعـر وواقعية الدرامـا، بين الستاتيكي والحركي، بين التأمّلي والاجتماعي، بين الشعيرة والتطقيس والمحاكاة وما تستوجبه من أفعال وردود أفعال وأحداث وشخوص ومشهدية، وبين المغلق والمحّدد والنهائي».

بحسب العوني الذي شارك في ملتقى الشعر العربي الذي أقيم في عمّان بمناسبة مئويتها، فإن المسرح بدأ شعراً حين كان الشعر «أكثر التصاقاً بالإنسان، ومعبّراً أساسياً عن مخاوفه وصراعه وانصهاره في عالم الآلهـة».

إلا أن تلك العلاقة (بين الشعر والمسرح) تعطّلت، كما يستنتج العوني حين «تفاعلَ الإنسان مع التاريخ، فأصبح المسرح سيكولوجياً وواقعياً حتّى كادت كلّ قواعد النظرية الأرسطية حول مفهوم التراجيديا تختفي، باستثناء الألق الشعري الذي عرفه المسرح الإليزابيثي، بخاصة عند شكسبير».

يقول العوني: «عاد الشعر مع المسرح المعاصر ليحتل مكانته وفعله من خلال التشكيل في الفضاء المسرحي، وتحوّل الكلام إلى حركة وإيماءة وإيقاع وأضواء، واستحوذت السينوغرافيا على الحيّز المشهدي، وأنصت الممثل إلى شعرية جسده فتشكّل الشعر وشكّل روح العرض المسرحي».

أمّا علاقة الشعر بالمسرح، فهي، بحسب العوني، إشكالية أخـرى «تتمحوّر حول خلوّ تاريخ الشعر العربي من دراميـة حقيقيـة، إضافـة إلى قصر عمر التجربة المسرحية العربية بوصف المسرح فنّـاً وافـداً وحديثـاً زُرع في مناخ مخالف لطبيعته أو يكاد، من حيث أنّـه نتيجـة مباشرة للتعبير الديمقراطـي العلني، وحاجـة مجتمعية ومدنية في الغـرب، في حين أنّـه وُظّـف في مجتمعاتنا للوعظ وكُرّس لتدريـس مكارم الأخـلاق».

مسرحة الشعر تعني «وضع الفكرة في إطار عالي الشفافية والفنية»، كما تقول الشاعرة نبيلة الخطيب. «إذا استطاعت لغة الشعر أن توصل الفكرة دون تشتيت، فالمسرحة ممكنة».

تتحدث الخطيب عن تقاطع الأداء مع الإلقاء لتقديم «حزمة من الفنون في بوتقة واحدة».

وهو ما تجاريها فيه الشاعرة مها العتوم، التي تستحسن فكرة «مسرحة الشعر»، أو تقديمه في قالب مسرحي، ما دام أن الشعر يبقى هو، سواء قُدم «مجروماً» من محسنات ومؤثثات محيطة، أو حُمل على صعيد طريقة إلقائه وإيصاله عبر وسيط جمالي عريق مثل «أبو الفنون».

مسرحة الشعر: بحث عن مساحة تتنفسها القصائد
 
14-May-2009
 
العدد 76