العدد 76 - أعلام
 

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.

فيصل درّاج

جبرا إبراهيم جبرا (1919 – 1994) امتداد نوعي للمثقف العربي الحديث، في شكله الكلاسيكي، ذلك أنه وطّد ما جاء به سابقوه وأضاف إليه جديداً. فقد درس في جامعة كيمبردج، في نهاية العقد الرابع من القرن الماضي ومطلع العقد الذي تلاه، وجمع معرفة عميقة بالثقافتين العربية والأوروبية، وعمل أستاذاً جامعياً وأَولى اهتماماً خاصاً بالصحافة الثقافية، ومارس جملة من الأجناس الأدبية، مثل: الرواية، والشعر، والقصة القصيرة والنقد الأدبي، وعني عناية خاصة بالنقد التشكيلي والموسيقا والترجمة.. لم يكن يضيف لوناً كتابياً إلى آخر، مدفوعاً بشغف الكم والإضافة الشكلانية، بل عمل على تقديم إنجاز نوعي، تجلى في حقلين على الأقل هما: الرواية، والترجمة.

استهل هذا الفلسطيني، الذي ولد في بيت لحم وتوفي في بغداد، الكتابة الروائية بعمل صغير الحجم عنوانه: «صراخ في ليل طويل»، أنجزه قبل الخروج من فلسطين بعامين، ونشره خارجها. عبّر هذا العمل، كما رأى الناقد المصري الراحل علي الراعي، عن موهبة حقيقية وميل إلى التجديد، فقد تضمن الأسطورة والرمز وشيئاً من الشعر، مستبقاً بعقدين من الزمن دعوات الحداثة الروائية اللاحقة. تمثّل الجديد الحاسم فيه بعناصر ثلاثة، تحيل على الأدب، وتنفتح على أسئلة الثقافة وتجديد المجتمع في آن: دعا إلى التجريب الكتابي، الذي هو معاينة للكتابة المسيطرة وكشف عن محدوديتها، ووحّد بين التجريب الكتابي ونقد صارم لمجتمع قديم تمنع عنه عاداته الراكدة المبادرة والوقوف، واحتفى بالفردية المبدعة التي ترفض الانقياد للمجموع وتبشّر بمستقبل جديد. تمسّك جبرا بهذه العناصر الفكرية، قبل الخروج من فلسطين وبعده، كاشفاً عن خيار فكري حداثي، يتميّز بالوضوح والرسوخ. لذا لن تكون أعماله الروائية اللاحقة، وأشهرها «السفينة» (1970)، و«البحث عن وليد مسعود» (1978) إلاّ صقلاً وتطويراً لما جاء به في روايته الأولى.

إذا كان جبرا وجدَ في الكتابة الروائية جنساً أدبياً نقدياً، أتاح له نقد المجتمع العربي والدعوة إلى تحويله، فقد عمّق منظوره الحداثي متوسلاً الترجمة، التي تتضمن أبعاداً ثقافية ثلاثة: فهي تقدم للقارئ معرفة جديدة وافدة من ثقافة أخرى، والتعرّف إلى ثقافة الآخر بشكل منهجي بعيد عن الارتجال. ولعل الفكر المنهجي، الذي يترجم من أجل هدف واضح، هو الذي قاد جبرا إلى «سياسة في الترجمة»، إن صح القول، ذلك أن ما أنجزه، في هذا المجال، يتصف بالترابط والتكامل: فقد ترجم جزءاً من «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، مُلقياً الضوء على الأسطورة، ثم ذهب إلى «ما قبل الفلسفة» شارحاً الأسطورة من وجهة نظر أخرى، وتقدم، لاحقاً، إلى «الأسطورة والرمز»، قبل أن يترجم أعمالاً أخرى تجسّد أدبياً، معنى الأساطير والرموز والإشارات الأدبية، مثل: «حكايات من لافونتين»، و»الأمير السعيد» لأوسكار وايلد، وصولاً إلى «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت. ومع أن النظر البسيط يرى في هذه الأعمال «تراجم أدبية» لا أكثر، فإن الربط بينها يكشف عن سياسة ثقافية واعية تفرض سياسة في الترجمة خاصة بها.

أمّا البعد الثاني، الذي قصده جبرا في ترجماته، فيتمثل في مبدأ المقارنة بين ثقافة محددة، هي الثقافة العربية، وثقافة أخرى أكثر تقدماً، هي الثقافة الغربية، ذلك أن العقل لا يتقدم إلا حين يقارن. أعطى في هذا المجال أمثلة متنوعة منها رواية «الصخب والعنف» للأميركي وليم فوكنر، التي حاول جبرا محاكاتها في روايته «السفينة» ومارست تأثيراً في عدد من الروائيين العرب، ليس آخرهم «غسان كنفاني» في روايته «ما تبقى لكم».

يتراءى البعد الثالث في الحقل اللغوي، ذلك أن الترجمة حوار بين اللغة المترجمة واللغة المترجم عنها، يكشف عن المختلف والمؤتلف بين اللغتين، ويطور اللغة المترجِمة ويوسع آفاقها. عبّر جبرا عن مهارة لغوية مزدوجة، حين أقدم على ترجمة شكسبير (العاصفة، مكبث، الملك لير،...)، مبرهناً عن امتلاكه للغتين الإنجليزية والعربية وقدرته على «امتلاك المدى المتداخل ثقافياً»، كما يقول روجر ألن. لم يكن جبرا وهو يترجم شكسبير يستعرض مهاراته اللغوية، بقدر ما كان يستولد من اللغة العربية، التي يتهمها بعضهم بالقصور، لغة أخرى قادرة على الحوار مع اللغات الأخرى. يقول جبرا متحدثاً عن ترجمته لمسرحية شكسبير «الليلة الثانية عشرة»: لا بدّ من القول هنا إنني تردّدت سنيناً طويلة بنقل هذه المسرحية إلى العربية،...، غير أنني أعدت النظر في هذا الرأي،...، مطمئناً أن ليس ثمة ما تعجز عن استيعابه هذه اللغة العبقرية، مهما أوغل الأصل، في تشابكه وضرب جذوره الخاصة به».

يكشف هذا المنظور، الذي يواجه لغة قومية بلغة قومية أخرى، عن وعي تاريخي يربط بين الحداثة والحوار الثقافي مع الآخر، وبين الحداثة والموروث الثقافي. تجلّى البعد الأول في نصرة جبرا للشعر الحديث، الذي استفاد كثيراً من الأسطورة و«الرمز التموّزي»، القائل بالفداء والانبعاث والميلاد الجديد، وصولاً إلى فكرة المقاومة، كما تجلّت في الشعر العربي في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. لا غرابة أن يبدأ جبرا الترجمة بكتاب: «أدونيس ـ من كتاب الغصن الذهبي»، الذي تضمن الرمز التموزي، مدركاً، منذ البداية، آفاق الخيال الخلاّق ووحدة الثقافة والمقاومة. هذه الوحدة جعلته يستنكر الزخرف اللغوي المبتذل، الذي ازدهر في عصر الانحطاط العربي، ويرى في «المقامة» شكلاً قديماً لا يمكن ترهينه. بل أن هذه الوحدة أقنعته بأن يحتفل بـ«ألف ليلة وليلة»، وأن يرى فيها تعبيراً عن الخيال الشعبي و«فوران المخيلة الإنسانية» ومصدراً خصيباً للرواية العربية، يقول: «ربما عدنا مرة ثانية إلى جذورنا في الأدب،...، وبذلك فإن ما أكتبه يجب ألاّ يُعدّ بشكل قاس، كأنه محاولة جاءت في أفضل الأحوال من السماء، وفي أسوأ الأحوال من الرواية الغربية...».

مع أن في تعددية جبرا الأدبية ما يقنع بعضهم باختصاره إلى «أديب محترف» لا أكثر، فإن في رواياته، بخاصة، وفي إبداعه الكلي بعامة، ما يصرّح بفلسفة ثقافية محددة المعالم وواضحة الحدود، مقولتها الأولى: المثقف «كقائد ومعلم للناس»، يعلّمهم ويصحح أذواقهم، ويسبقهم إلى المستقبل، لأنهم لا يرون ما يرى المثقف إلا بعد حين (مجلة «حوار»، تموز، 1966)؛ والثانية: «النخبة الثقافية»، التي تُعلّم الناس وتقودهم، وصولاً إلى «بطولة الثقافة»، التي هي الشرط اللازم والضروري لإنجاز التغيّر والثورة. فلا جديد إلا بهدم القديم الذي يحاصر حركته، ولا جديد إلا بوعي ثقافي يمايز بين الأزمنة المختلفة وحاجاتها، ولا انبعاث إلا بثورة ثقافية تأتي من وعي نقدي، يؤسس لمجتمع يوحّد بين الديمقراطية والتحديث الاجتماعي.

أوكل نجيب محفوظ إلى روايته الفصل بين الاستبداد والديمقراطية، وآثرت رواية جبرا الفصل بين الجهل والمعرفة، وبين استبداد القديم وجمالية الحديث. وما بطله المثقف، الممتد من «صراخ في ليل طويل» إلى «البحث عن وليد مسعود» إلا صورة عن الارتقاء القيمي والأخلاقي والجمالي الذي تأتي به الثقافة، بعيداً عن نظر ومجتمع قديمين يدفنان الإنسان في مقابر العادات. وإذا كان الوعي الساذج، أو البريء، يرى السياسة في جملة من الشعارات السياسية، عالمية الصوت وفارغة المضمون، فقد رأى جبرا السياسة في ثورة ثقافية تعيد بناء القيم والرموز والمعايير، ذلك أن «التحزّب السياسي»، من دون وعي ثقافي، يعيد إنتاج التخلّف بشكل جديد. ومع أن في وحدة الثقافة والسياسة، كما رآها جبرا، ما يذكر بشيء من طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، فإن رومانسية جبرا الجامحة، التي جاءته من الشعر الرومانسي الإنجليزي، تقيم فرقاً واضحاً بين الطرفين. فقد آمن طه حسين بدور المثقف، دون أن يقول بـ«المثقف الرسولي»، الذي قال به جبرا، وأكّد دور النخبة كدور «مؤقت» لا يحتاجه الشعب المتعلّم لاحقاً.

لعل رومانسية جبرا الجامحة هي التي جعلته يردّد بغبطة كبرى كلاماً عابراً سمعه في بغداد حين قابل المؤرخ الإنجليزي «أرنولد توينبي»: «أنتم الفلسطينيون خرجتم من فلسطين كما خرج العلماء الإغريق من القسطنطينية بعد أن احتلها الأتراك العام 1453، أنتم تلعبون الدور الحضاري الهائل نفسه في الأمة العربية». نسي جبرا، في افتراضه المتفائل، أمرين: الشروط الموضوعية التي يعيش فيها الفلسطينيون، والعلاقة الموضوعية بين الفلسطينيين والشعوب العربية... جاء اندفاع جبرا، ربما، عن تعلقه الشديد بالقدس، التي رأى فيها مرآة لكل ما هو جميل ومقدس في هذا العالم. تحوّلت القدس في نثر جبرا إلى لؤلؤة فريدة، وإلى مكان مقدس قادر وحده على هزيمة الأشرار. يقول عن مدينته الأثيرة: «لقد كانت القدس دائماً مدينة الحلم والتوق وتطلع النفس البشرية إلى الله»، ويقول أيضاً: «القدس أجمل مدينة في الدنيا على الإطلاق. قيل إنها بنيت على سبعة تلال،...، لقد ارتقيت ما فيها من تلال، وهبطت كل ما فيها من منحدرات من حجر وحجر وردي وحجر أحمر. بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض مع الطرق الصاعدة والنازلة كأنها جواهر منثورة على ثوب الله...».

جبرا، الروائي الرسام المترجم، يذكّر القارئ العربي بأشياء كثيرة: بولادة الشعر العربي الحديث، وبمدينة بغداد، وبالإنسان الفلسطيني الذي عاش المنفى وانتصر عليه، وبالمسيحي الذي لا يرى الفرق بين الأديان، وبالفكر الديمقراطي الذي يوحّد بين المعرفة والتقدم،.....، ويذكّرنا بأن القدس أجمل مدينة في الدنيا.

جبرا إبراهيم جبرا: كتابة تجريبية ونقد صارم لمجتمع قديم
 
14-May-2009
 
العدد 76