العدد 76 - بورتريه | ||||||||||||||
موفق ملكاوي
للرجل حواريون وأشياع وتلامذة، بلغوا من العدد ما يعز على الحصر، وبخاصة أنه أفنى جلّ عمره في ميادين الجامعات، وفي قاعات الدرس، كارزاً بحب العربية، وداعياً إلى إعادة الألق إليها. أطلق عليه محمود السمرة لقب «رجل الأوائل»، فهو أول رئيس للجامعة الأردنية، وأول وزير للتعليم العالي، وأول رئيس لمؤسسة آل البيت. إنه ناصر الدين الأسد، المولود في العقبة في أقصى الجنوب العام 1922، لأب أردني وأم لبنانية، تعشّق البادية حتى أدمنها، واختمرت في روحه طلاوة الشعر وحلاوته، فنهل منه صغيرا، ربما ليختزن منه ما سيعينه بعد حين، على وضع نظرية في «مصادر الشعر الجاهلي» يرد فيها على أستاذه طه حسين. يصرح بأنه يعيش شخصين متناقضين في حياته الأدبية، أحدهما: ذوعقلية صارمة حين يتعلق الأمر بالجهد الأكاديمي العلمي، والآخر: وجدانية صوفية شعرية، حين يتعلق الأمر بغير ذلك، ومنه الشعر بطبيعة الحال. 87 عاماً يحملها الرجل على كاهله، وما زال يخشى على لسانه اللحن بالعربية «حبيبته الأولى»، ويدعو إلى أن يهتم أولو الأمر باللغة بصفتها الوعاء الحضاري للأمة، وينعى زمناً جميلاً كان فيه المعلمون لا يتكلمون في قاعات الدروس بغير الفصيح من الكلام. ويؤكد «اللغة العربية في الوقت الراهن أساس دائها هو التعليم»، كما ينتقد وسائل الإعلام العربية المختلفة، التي يراها تشجع على «فساد اللغة»، فإعلانات الصحف باللهجات العامية، «حتى إن العامية تسربت إلى نشرات الأخبار». ويؤكد «اللغة العربية تذبل الآن على أيدي أبنائها» انتقاداته تطال الجامعات ، ويرى أنها تحولت إلى مدارس، ما عاد الطلبة يقومون بالبحث العلمي الحقيقي، «قد يستوفون الشكل في هذا، لكن يقدمون موضوعاً أشبه بموضوعات الإنشاء التي كانت تُقدم قديماً». الأسد يعتبر أن جيله عاش «في أعقاب كارثة كبيرة»، هي «زوال الوحدة بين أقطار عالمنا، وسقوط الخلافة». وهو لا يتحدث هنا عن الخلافة كنظام ديني، «لأنه لا يوجد حكومة دينية في الإسلام»، وإنما يقصد «الوحدة الشاملة التي كانت تربط هذه الأجزاء كلها». يقول عنه مالك التريكي إن «مسار العلامة الأسد يمثل اتصالاً حقيقياً بين المعرفة والأخلاق، مصداقاً على صحة قول الأقدمين بأن المعرفة الحق إنما هي كمال العلم لكمال العمل». تلك مسائل يعترف بها كثيرون ممن زاملوه أو تتلمذوا على يديه، أو عملوا بمعيته في أماكن شتى، فأبو بشر يحتفظ بلباقة كبيرة في تعامله مع الآخرين، يحترم الجميع، فصوته لا يرتفع؛ يأتي هادئا، عميقا، وقاطعاً. كلامه لا يجيء على استعجال، وإنما برويّة من يتفكر في اختيار المفردة الملائمة للمقام، ويجمع معارفه على أن هدوءه من الأمور الملازمة لشخصيته. مظهره يدل على حسن ذوق رفيع، فهو دائم التأنق، يكاد يمشي كمن يسير وفق طقس بروتوكولي صارم. لغته العربية السليمة اكتسبها صغيراً، حين كان والده يجلب إليه من رحلاته كتبا متنوعة، زادت من اطلاعه وثقافته، ووفرت له مخزونا جيدا من المعرفة، ليمتلك منذ صغره قاموساً من المفردات المتنوعة، وقدرة مبكرة على التعبير، إضافة إلى اطلاع على التاريخ العربي الإسلامي. في العام 1939 التحق بالكلية العربية بالقدس لاستكمال المرحلة الثانوية، ما أهّله خلال الدراسة في رحاب هذه الكلية العريقة، لأن يطلع أكثر على التراث الفكري والأدبي، وفيها تعلم المنهج العلمي والأسلوب الموضوعي في البحث. يرد الفضل في ذلك إلى أستاذه إسحاق موسى الحسيني «دربني على أساليب البحث العلمي، وشجعني على مواصلة الدراسة بعد ذلك في الجامعة». إلا أن هناك أموراً ما زال الأسد قابضاً فيها على جمر الذاكرة: المدينة العتيقة والكلية العربية، إذ ما زال يتذكر شجيرات حديقة الكلية، ولا ينسى أصدقاء درج معهم هناك، ليخرجوا بعد ذلك ويتسلموا مناصب في بلاد عربية عديدة: الراحل إحسان عباس، محمود السمرة، الياغيان: هاشم ياغي، وعبد الرحمن ياغي، جبرا إبراهيم جبرا، ومحمود الغول. القدس بالنسبة للأسد لم تكن مدرسة يتلقى فيها التعليم فحسب، بل شكلت لديه أول التقاء مع المدينة الحقيقية، «انفتحت أمامي معالم الحياة الجديدة وانفتحت أمامي آفاق من التفكير ومن الدراسة تختلف عما ألفته في مدارس شرق الأردن من العقبة ووادي موسى والكرك وعمان»، ولعله لا يخفي آثار تلك التجربة على حياته، وعلى تغير نمط تفكيره الذي قاده إلى أن يتابع تعليمه، لكن هذه المرة في مدينة جديدة، وتجربة حياتية أخرى: القاهرة. في القاهرة، التحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وأغنى الأسد تجربته الحياتية والدراسية، وكيف لا يفعل وهو الذي تلقى علومه على يد رواد النهضة الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين؛ أمثال: طه حسين، وأحمد أمين، وزكي مبارك، ومحمود محمد شاكر، وكامل الكيلاني. يرى أنه ممن أسعدهم الله فأتاح له فرصة القرب من طه حسين. يروي أنه كان كثير التردد على مجلسه، وأنه كان يكرمه ويقربه إليه. عندما أصدر الأسد «مصادر الشعر الجاهلي» عن دار المعارف، تردد الأساتذة في مناقشته، وكانوا يريدون عودة الدكتور طه حسين من رحلة الصيف التي كان يقوم بها، لكي يستأذنوه في الأمر، لأنهم كانوا يخشون أن يغضب من الكتاب، وبعد إلحاح تمت مناقشة الكتاب في غياب طه حسين. الأمر لم يمر بسلام، فما إن عاد عميد الأدب العربي من رحلته حتى قرأ الكتاب، ليفاجأ الأسد بزيارة غير متوقعه في مكان عمله في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، فجلس متجهما «وأسمعني أغلظ القول فيّ وفي فكري وفي كتابي، فلم أفه بكلمة واحدة، وخرج بعد ذلك كما دخل». تطييب الخاطر جاء بعد أسبوع، إذ زاره طه حسين مجدداً، وأسمعه كلمات جميلة أزالت ما في نفسه، وأثنى على الكتاب وعلى منهجه. يقول الأسد «هذا هو طه حسين، كله عاطفة بالإضافة الى العقل المتمثل فيه، يغضب بسرعة ويرضى بسرعة، شأنه شأن كثيرين من الناس، يحب الثناء والمديح، ويكره أن يُرد على آرائه، ولو كان رداً غير مباشر». رغم اعترافه بفضل أستاذه أحمد أمين الذي درسه النقد الأدبي، إلا أنه يأخذ عليه كونه «يلجأ دائماً إلى اللهجة العامية، ولم يحسن الارتجال أو الحديث أو التدريس باللغة العربية الفصيحة». قال عنه وزير الثقافة الأسبق الإعلامي محمود الكايد إنه «رجل لا ذنب له إلا العلى والفضائل». إنها مقولة صائبة لرجل خدم أمته في دروب شتى على مدار أكثر من ستين عاماً، وأصدر أكثر من عشرين كتاباً بين تأليف وتحقيق وترجمة ومراجعة، إضافة إلى ما يزيد على ستين بحثاً ومقالاً. لكنه لا يقف عند هذا الحد، فهو من الأباء المؤسسين في المجال الجامعي، ففي الخمسينيات تولى أول كلية للتربية والآداب في الجامعة الليبية في بني غازي، ثم جاء ليؤسس الجامعة الأردنية في عمان، وساهم في إنشاء المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، وإنشاء وزارة التعليم العالي، فضلا عن عضويته في عشرات المجالس والمجامع المتخصصة في دول عديدة. في السبعينيات اختبر الأسد العمل الدبلوماسي، حين عمل سفيرا للأردن في السعودية، واختبر الوزارة حين تولى أول وزارة للتعليم العالي، وفي حميع المناصب التي تسلمها ظل هو نفسه: العالم الباحث المستقصي، الذي لا يراهن سوى على الحقيقة. على مشارف التسعين، يقف الأسد ماداً بصره إلى الأمام، كما تعود دائماً، غير أنه يتذكر زمناً جميلاً رصّعه آباء بتعبيد طرقات العلم، وتكرّس مناهج البحث والتقصي، فيتحسر على ذلك الزمن الذي مضى، ويرجو عودته. رغم غصات كثيرة في النفس، يعتبر نفسه متفائلاً، يقول: «لا يجوز أن نيأس من الإصلاح ومن المستقبل. الحاضر فيه مرارة، ومن حقنا أن نحس بهذه المرارة، وأن نعبّر عنها، وأن ننقدها». |
|
|||||||||||||