العدد 75 - ثقافي | ||||||||||||||
فيصل دراج قدّم مهدي عامل، الذي اغتيل في أيار/مايو 1987، صورة نموذجية عن عقائدية ثورية، اطمأنت إلى قوة «النظرية»، وإلى قدرة المؤمن بها على إقامة الحد الفاصل بين الصحيح والخطأ. اعتقد الثائر الراحل أنه يمشي مع نظرية تمشي مع «التاريخ» وتشرح خطواته بلغة واضحة. ولعل تماهي الثائر بالنظرية، كما تماهي الطرفين بالتاريخ، هو الذي جعله يؤثث مدينة جميلة لم يَرها أبداً. أخلص لذاته وهو يخلص لـ«الكتب»، وأخلص، في الحالين، لنسق من الحالمين لا ينتهي. كتب الماركسيون اجتهاداتهم بأساليب متعددة، اقترب بعضها من نثر الحياة، وآثر بعض آخر لغةً من خشب. أراد مهدي عامل أسلوباً خاصاً به، إذ العلم ماركسية قوامها جهاز نظري يقرأ الظواهر في أسبابها المادية، وإذ الإيمان ماثل في طبقة متحزّبة تحرّر البشرية كلّها. رأى في الفلسفة والسياسة وحدة لا تقبل الانقسام، يصوغ كل طرف غيره ويعلن عن جديد غير مسبوق. فاشتقت الفلسفةُ السياسةَ من «صراع الطبقات»، الذي يضع البروليتاريا في مواجهة البرجوازية، ونقدت السياسةُ الفلسفةَ وطالبت الفلاسفةَ بتحويل العالم لا بتأويله. صرّحت هذه العلاقة المتبادلة بجديد الماركسية، القائل بوحدة المادية التاريخية والطبقة العاملة. سواء غمر الإيمان النظرية أو ترك أطرافها ظاهرة، فقد استقر فيه موروث تنويري عنوانه: الإرادة العقلانية، التي تجلّت في اتجاهين: تشييد تصور عقلاني للعالم، يجعل الأخير واضحاً شفافاً قابلاً للتحويل والترويض، وإعادة تقويم «التصورات اللاعقلانية» من وجهة نظر النظرية - المثال. بدا مهدي، وهو ينبذ الوهم ويستقوي بالحقيقة، مهندساً - فيلسوفاً، يقترح مدينة فاضلة ويشرح سُبل بنائها، ويدعو إلى اقتلاع مدينة الاستغلال والطائفية والتبعية.. عاش توتر العلاقة بين العلم والاعتقاد، وجعل من أسلوبه مرآة لحالم كبير، تحتاجه النظرية ولا يحتاجها في شيء كثير. يعطي كتابه الأخير: «نقد الفكر اليومي»، الذي لم يتِح له الموت إكماله، صورة عن قناعات مطلقة، يفصح عنها السياق قبل الأسلوب، ذلك أنه أكد انتصار الفكر الماركسي حين كان يقترب من هزيمة كاسحة. ساوت الإيمانية بين النظرية والانتصار، وساوى العقل الانتصاري بين النظرية والمنتمي إليها، كما لو كان الحق قد تشخصن في النظرية والمناضل معاً. لهذا أخذت النظرية على قلمه صفات متعددة، فهي: «الفكر المناضل، اليانع أبداً، اليقظ الدائم، لا يتخاذل حين يفاجأ،....، يؤكد ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية» (ص 15). تتكشّف شخصنة النظرية في تعبير «لا يتخاذل حين يفاجأ»، الذي يشير إلى المناضل مهدي عامل، بعيداً عن أيديولوجية شعاراتية تحيل إلى بيروقراطية متكلسة أتقنت «عادات القيادة» أكثر مما أتقنت أي شيء آخر. قال مهدي بماركسية يضمن انتصارها سببان: علميّتها التي تفسر تكوّن الظواهر الاجتماعية وتحولاتها، اعتماداً على مبدأ التميّز والكونية الذي يشتق من ماركسية كونية ماركسيات توائم مجتمعات متفاوتة التطور، فهو يقول: «حين يقوم الفكر بتحليل ملموس للواقع الملموس، يسير إلى ملاقاة هذا الواقع في مخاطرة هي ضرورية لإنتاج المعرفة، لا يجرؤ عليها سوى فكر مادي عرف كيف يصغي إلى الواقع ويحتكم إلى منطقة الموضوعي» (ص 40). يشخصن مهدي «الفكر المادي» متحدثاً عن «الجرأة» و«الإصغاء»، كما لو كان الفكر المادي لا يفصح عن خصوبته إلا عند مفكّر يتمتع بالجرأة ويجيد الإصغاء. يصدر السبب الثاني عن «روح العصر»، التي هي من روح «الفكر المادي»، أو صورة عن «الفكر العلمي»، الذي هو قوام الزمن الحديث. نقرأ: «هو العصر وهذي حداثته، أن تعمّ فيه انهيارات الكهانة والقداسة والسيادة». الماركسية هي فلسفة «عصر الثورات»، الذي هزم عصراً آخر، وهي المعرفة الدقيقة التي تبصر في أفق الحاضر مدينة فاضلة: «سر في الزمن الثوري وحدّق فيه بعين الفكر العلمي، ترى الواضح في الآتي، يستقدمه الحاضر بمنطق تناقضاته». حين يقرأ الإنسان الثوري واقعه بـ«عين الفكر العلمي»، يرى الزمن المقبل ويصبح امتداداً للفكر العلمي في آن. استولد مهدي ضمانه المزدوج من علاقات ثلاث تتبادل المواقع: العلم، الثورة والطبقة العاملة. إذ سياسة الطبقة العاملة هي العلم، وسياسة نقيضها هي الجهل، وإذ علم الطبقة العاملة هو الثورة، وإذ الجهل هو فكر الثورة المضادة. وصل، رغم حديثه عن التحليل الملموس في شرط ملموس، إلى «فكرة الجوهر» التي تختصر الوقائع إلى كلمات، حيث الطبقة العاملة -إنْ كانت موجودة- هي الفلسفة التي تحيل عليها، بقدر ما إن «الطبقة الثورية» وعي صحيح تحرّر من الزيف وأطياف الكهانة. وواقع الأمر أن الضمان المزدوج، الذي يبث لغة انتصارية، قائم في إيمانية مهدي قبل غيرها. فقبل عشر سنوات من كتابه «أفق الفكر اليومي» (1987) كشف الفرنسي آلتوسير عن «أزمة الماركسية»، وكان الإيطالي الشهير لوتشو كوليتي قد أصدر كتابه «أفول الماركسية». السؤال المطروح لا يمس التملّك المعرفي في شيء، فهو يبدأ وينتهي بـ«العقل الطوباوي»، الذي يستبدل بالمدينة القديمة مدينة جديدة، أو أنه يدور حول «المثقف الرسولي»، الذي يعهد إلى ذاته بإصلاح العالم متماهياً، دون أن يدري، بالشاعر الرومانسي الذي يتماهى بالحقيقة. ولهذا شخصنَ مهدي، في زمن الانهيار، النظرية التي لا تقبل بالشخصنة، محاولاً أن يبث النار في الرماد، ومعتصماً بروح رومانسية أوصدت النوافذ الخارجية واكتفت بنافذة القلب. فهو يكتب: «لا يكتب التاريخ إلا قادر على قراءته، من هذا الواقع الذي يتكشّف منه لعين الفكر الثوري النافذ في الأحداث إلى عقل الأحداث» (ص 21). يلتبس «العقل الطوباوي» بالنظرية ويتساوى بها، ويتقدم خطوة أخرى ليلتبس بـ«الأحداث وعقل الأحداث». وإذا كان لوكاتش قد ساوى في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» بين الطبقة العالمة والوعي الحقيقي، فقد ساوى مهدي عامل بين المفكر الثوري والواقع المادي الواجب تغييره منتهياً، بصمت، إلى نتيجة غريبة تقول: ليس الواقع إلا أثراً لعين الفكر التي تراه، ولهذا يكون «تملّك الواقع التاريخي هو قبض أو محاولة قبض على الأساسي المحتجب فيه،...، في ملحمة استنباط الأدوات القادرة على ترويض الواقع»، على اعتبار أن السيطرة على الواقع من سيطرة الفكر النظري عليه. تستدعي النتيجة «الفكر الإرادوي»، بلغة معينة، أو «المثالية الخالصة»، بلغة أخرى، لكنها تستدعي أولاً الفكرة الرومانسية القائلة بـ«الخلق»، حيث ما يراه الشاعر ينجزه المستقبل، بلغة الفيلسوف الألماني شلنغ. جمع مهدي، في كتابه الأخير، بين استبداد اليقين وعبء النزعة «الرسولية»، إن لم يكن اليقين قوام النزعة وتتويجاً لها، فلا رسالة بلا كتاب صادق يبشّر بالرسالة. يقول: «بين العلم والجهل، لا يقف الفكر حائراً، ينتصر الأول، إلا إذا هيمن فيه الجهل، فهو، إذ ذاك، ليس بالفكر، بل عدمه» (ص 21). لا موقع لتناقض الفكر، أو لصراع النزوعات بلغة لينين، ولا مكان لنسبية المعرفة، فالمكان كله لـ«المعرفة الخالصة»، التي تحرّر «العقل الثوري» من أشكال الحيرة المحتملة. لعل استبداد اليقين، الذي يمليه منطق الرسالة، هو الذي أقام النص على جملة من الثنائيات الباترة: العلم والجهل، الفكر الثوري والفكر الرجعي، الوجود والعدم، والرقم والصفر،... ومع أن الجهاز المفهومي، الذي يمحو الجهل بالعلم، لا يشير إلى ثنائية الخير والشر، فهي قائمة هناك، تتلوها ثنائية النصر والهزيمة، لأن «اليقين العلمي» يخلق الواقع ويعيد تشكيله كما يريد. اشتق مهدي الثوريين من فكرة الثورة، فآمن بحزب حقيقي يقتفي آثار الحقيقة، واشتق الواقع من نظرية ثورية فسّرت الفرق بين شرق بيروت وغربها بـ«التطور اللامتكافئ»، واشتق ما أراد من روح جمعت بين الصدق والشجاعة والبراءة. كان في ممارسته، وهي كلمة مهيبة في قاموسه، ما يذكِّر بأشياء من السينمائي السوفييتي إيزنشتين والقائد الشيوعي الإيطالي غرامشي، وكان عنده ما يحوّر ما قالا به تحويراً يلائم روحه. قال السوفييتي: «ينبغي أن تكون الحقيقة جزءاً من الأدوات التي تفتش عن الحقيقة»، وتحدث الإيطالي عن «المثقف الجمعي الذي هو الحزب في فئاته المختلفة». اعتقد مهدي أن الحزب هو الحقيقة، وأن جميع الحزبيين، في القمة والقاعدة، وجوه حقيقية للحزب السائر إلى الانتصار. واعتقد أن هؤلاء جميعاً تجسيد للنظرية - المثال، سواء صرحوا بما يفعلون، أو تركوا أفكارهم «في حالة تطبيقية»، يعطيها الفيلسوف الحزبي صياغة نظرية مطابقة، كما فعل في كتابه «النظرية في الممارسة السياسية». في مطلع السبعينيات الماضية، حين بدا الأفق واعداً، اجتهد مهدي في أن يكون «فيلسوف التحرر»، فابتعد عن لغة الخشب السعيدة وانصرف إلى «الإشكال النظري»، فكتب عن «نمط الإنتاج الكولونيالي»، الذي يعيد إنتاج أنظمة تعترف بمصالح الكون كله ولا تعترف بمصالح شعوبها، وعن «أزمة الحضارة العربية»، التي هي من أزمة أنظمة مستقرة ألغت معنى الأزمة ووطّدت الركود. وفي منتصف الثمانينيات، حين كانت قوى التحرر تطرق أبواب التداعي الأخير، آثر مهدي أن يوازن بين النظرية والتبشير، وأن يجعل من «المثقف العضوي» مثقفاً رسولياً يرفع ألوية الخلاص ويموت في الطريق. مارس خياراً أخلاقياً أقنعه، وهو المغترب البريء المعزول، أنه مدعوم من جماهير واسعة تسير إلى النصر الأخير. |
|
|||||||||||||