العدد 74 - ثقافي
 

عواد علي

في المسرح، كما في الفنون الأخرى، شاع توظيف الأساطير بنمطين من المقاربات: المقاربة الامتثالية، وتتمثل بالنصوص التي كيّفها كتّابها للمسرح من دون أن ُيحدثوا تغييراً في أحداث النصوص الأسطورية أو شخصياتها أو الرؤى التي تحكمها، بمعنى انهم أضفوا عليها طابعاً مسرحياً فقط من خلال التقنية، ولم يمسّوا نواتها الأساسية، أو بُناها الدلالية. والثانية، المقاربة الإبداعية، وتتمثل بالنصوص التي أعاد فيها كتّابها إنتاج الأساطير، أو قاموا بتأويلها درامياً وفق رؤى معاصرة أحدثت تغييراً في أحداثها، أو شخصياتها، أو نواتها الأساسية، أو منظوراتها، لتتناغم ومشاغل عصرنا الحالي، انطلاقاً من منظومة الأفكار والأيديولوجيات والتصورات التي يحملها هؤلاء الكتّاب.

لكن ثمة مقاربة ثالثة لم يعرفها المسرح العربي إلاّ على نطاق ضيق، وتتمثل بالنصوص التي انتزع فيها كتّابها الشخصيات الأسطورية من محاضنها وزرعوها في الحاضر، وافترضوا لها وجوداً ومواقف وأفكاراً متخيلةً، أو وضعوها في فضاءات معاصرة غريبة عليها، وزجّوها في صراعات مع شخصيات معاصرة. ويمكن الاصطلاح على هذه المقاربة، تجوزاً، بالمقاربة الافتراضية، ومن بواكير نصوصها نص «المهرج» لمحمد الماغوط، وفيه ينتزع رائدُ قصيدة النثر شخصيةَ صقر قريش من محضنها التاريخي في الأندلس، ويزرعها في الحاضر العربي. على غرار هذا النص المسرحي كُتبت مجموعة نصوص خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منها «هبوط عشتار إلى بغداد» للكاتبة العراقية رشا فاضل.

تنتزع الكاتبة، في هذه المسرحية، شخصيتَي «تموز» و«عشتار» من قلب الأسطورة، وتضعهما في قلب بغداد المحتلة العام 2004. في المشهد الاستهلالي تتطلع «عشتار» من شرفتها السماوية إلى الأرض، فيصدمها اتساع بحيرة الدماء على أديمها، وتحاور «تموز» حول الأمر، وينتابها القلق لأنهم يهدمون صرحها المدرج.. الجسر الممتد بين الأرض والسماء، وتتساءل عمن يكون هؤلاء الغرباء المدججون بكتل الحديد، فألوانهم لا تشبه ألوان سلالتها، ولغتهم لا تنتمي إلى قاموس شعبها، فيجيبها «تموز» بأنهم الذين أراقوا الخضرة، وحولوا شعبها إلى شقائق نعمان يتناثر فوق الشعاب.. عندئذ تصيح إلهة الخصب والحب بغضب وحزن، وتقرر أن تنزل إلى الأرض لتبارك شعبها من جديد، وترقيه ضد الموت، وتمنحه عشبة الحياة. لكن «تموز» يمسك بيديها ويحاول منعها، محذراً إياها من أن هؤلاء الغرباء سيعلقون فضة جسدها في الساحات العامة. وحين يجدها مصرّةً يرافقها في رحلتها.

في المشهد الثاني، تسير «عشتار» إلى جنب «تموز» في أحد شوارع بغداد: المكان خراب دامس، ورائحة دخان تغطي الفضاء. يحدث انفجار قريب يطوح بهما على الأرض، ويغمرهما بدخان كثيف. أصوات استغاثات تعلو، وعويل أشخاص يركضون بهلع في الأرجاء.. طفلة تبكي وهي تحمل حقيبةً مدرسيةً ممزقةً.. امرأة تنشج وتبكي طفلها.. رجل يبكي بشكل هستيري وهو ينزف.

وبينما تندفع «عشتار» إلى مكان الانفجار، الذي تطوقه سيارات الإسعاف والقوات العسكرية، لتبحث عن رفيقات الطفلة، يرتفع صوت الإطلاقات النارية، وتعم الفوضى، وتفقد أثر «تموز»، فتبدأ بالتفتيش عنه بين الوجوه الباكية التي لا تشعر بوجودها، فيخبرها أحد الجرحى أنهم أخذوه إلى التحقيق. من هنا تبدأ المأساة، حيث يتعرض «تموز»، في الفصل الثاني، إلى التعذيب والاستجواب داخل المعتقل، على يد القوات الأميركية، بتهمة الإرهاب!.

تظهر «عشتار» في مشهد تالٍ مهلهلة الثياب، تسأل الرائح والقادم عن تموز. ثمة من يرميها بنظرات متأسية، وآخرون لا يأبهون بها. الجميع يمرون مسرعين وكأن أشباحاً تطاردهم. تجلس في إحدى الزوايا. لا تلبث طويلاً حتى يختفي الجميع. تشعر بالإعياء، فتستسلم للنوم. تمر دورية أميركية، يحاول أحدهم إيقاضها وهو يضربها بقدميه:

«الضابط : لماذا أنت هنا؟ ألا تعلمين أنه حظر التجوال؟

(عشتار بصعوبة تفتح عينيها وتنهض، وتتطلع إليهم بفزع وذهول)

الضابط (يتطلع إليها بإعجاب): هل الإرهابيات جميلات بهذا الشكل؟

عشتار (بصعوبة تحاول الابتعاد عنهم، وبارتباك تقول): كنت أبحث عن تموز.. و..».

لكنهم لا يدعونها تكمل كلامها، يقيدونها ويجرّونها إلى سيارة «الهمر»، وفي المعتقل تتعرض مثل «تموز» إلى التعذيب والاستجواب بتهمة الإرهاب أيضاً!.

في الفصل الأخير يجر جنديان أميركيان «عشتار»، وهي بثياب ممزقة، ووجهها ينزف دماً، ويرميانها في الزنزانة التي يُعتقل فيها «تموز» عارياً مغطى الرأس بكيس، مثل بعض معتقلي سجن «أبو غريب»، وحين يُرفع عنه الكيس بأمر الضابط يظهر وجهه غارقاً بالدموع والدماء، فتصرخ عشتار بأعلى صوتها وتتجه إليه، لكن الضابط يستوقفها ويمسكها من يديها:

«الضابط: لن تعودي إليه بهذه السهولة قبل أن تعترفي بتفاصيل العملية كلها.

تموز: قلت لك هذه ليست أرضنا، لقد أخطأنا العنوان.

عشتار: نعم، هذه ليست أرضنا.. سلالتنا ذهبت.. ماتت.. وحق علينا أن نموت معهم وفاءً لهم، ولحضارتنا العريقة التي ستولد بعد موتنا. هكذا تقول النبوءات..».

بهذه النهاية تمزج رشا فاضل بين فكرة التضحية، التي يشكل «تموز» واحداً من أكبر رموزها في الميثولوجيا، والسخرية المبطنة من تجاهل أحفاده له، وتفريطهم ببلاد سومر.

وثمة في بداية المسرحية مفارقات عديدة تصطدم بها «عشتار»، وتسوّغ، من الناحية الدرامية، هذه السخرية، رغم صعوبة القبول بها من الناحية المبدئية. ومن تلك المفارقات، مثلاً، مخاطبة أحد الرجال لـ«عشتار» قائلاً: «يا امرأة ما زلنا في حزيران، تموز لم يحضر بعد؟ ما دخل الشهور بالذي تبحثين عنه؟»، وذلك رداً على سؤالها له: «أين سأجد تموز؟». وكذلك إجابة أحد الصبية عن سؤال «عشتار»: «ألا تعرفون بلاد سومر؟»، بقوله: «في الحقيقة.. سومر.. نعم تذكرت.. إنها أحد أنواع السجائر الرديئة»!

إن نزول «عشتار» إلى العالم السفلي، عالم الموتى في الأسطورة، يتطابق تماماً ونزولها، في هذه المسرحية، إلى بغداد، التي أصبحت عالماً للموتى أيضاً خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال، لكنها تختلف عن ذلك العالم الأسطوري في أنها تقاوم من أجل استعادة الحياة والحرية والخصب.

هبوط عشتار إلى بغداد
 
30-Apr-2009
 
العدد 74