العدد 74 - أعلام | ||||||||||||||
عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.
فيصل دراج الأردني غالب هلسا (1932-1989)، وُلد في الأردن ودُفن فيها، روائي متميّز، مثقف متمرّد وإنسان طليق، سكنته رغبة إصلاح هذا العالم. أراد أن يكون مثقفاً، وجذبته أسئلة الأدب والفلسفة وعلم الجمال، وأراد أن يكون مثقفاً نقدياً، فكتب عما يحاصر الإنسان ويعطّل رغباته، وأراد أن يكون ذلك المثقف الملتزم، الذي يقف مع المضطهَدين، يقاسمهم أحلامهم ويقترح عليهم أحلاماً جديدة. جعلته هذه الرغبات المختلفة روائياً وناقداً أدبياً ومثقفاً متفلسفاً وكاتباً يومياً نزيهاً، لا يقايض الحقيقة بالمصلحة. غير أن ما ميّزه عن غيره تَمثّل في البراءة الساطعة التي لا تعرف الخديعة، وذلك «النقاء الطفولي» الذي يلازم الأرواح الحالمة. تصدر أهمية غالب، في الحقل الروائي، عن منظور حداثي يقطع مع التصورات التقليدية، التي تعرف الحكاية لا الرواية، وتحتفل بالإنشاء المدرسي ولا تعرف عن النثر شيئاً. بنى أعماله المتكاملة على مقولة «الفرد المغترب»، الذي يسائل ولا يعرف اليقين، ويفتش في هذا العالم المقوّض عن شيء أضاعه، أو لم يعرفه بعد. أدرك، مبكراً، أن الرواية كتابة عن شخصية مستقلة، لا تقبل بقيم مجتمعها، ولا يقبل مجتمعها بقيمها، إلا في لحظات سعيدة. ذلك أن الكتابة الروائية بحثٌ عن مثال، أو عن مدينة فاضلة، تنقل الإنسان من مجال الكبت والحرمان إلى مجال الحرية والتحقق. وهذا البحث النظري - العملي عن مثال منشود، يتراءى ويبتعد، جعله يوحّد بين الإنسان المغترب، الذي لا يفرّط بأسئلته الصحيحة، والحياة اليومية الواسعة الدنيوية، المليئة بالتناقضات. فلا مكان للإنسان المجرّد، الذي لا يجوع ولا يشقى، ولا موقع للأرواح المطمئنة، التي لا تعرف غبار الحياة، ذلك أن إنسان الرواية كيان محسوس يشتهي ويرغب ويحزن ويخسر، ويحتفظ برغباته ويتابع الطريق. رسم هلسا إنسانه، بفرادة وتميّز، في روايته «الخماسين»، حيث الرواية فلسفة، والفلسفة الروائية تساؤل مفتوح، يبحث عن العدالة ويقاتل من أجلها مستجيراً بمثال أخلاقي، لا يمكن هزيمته. ليس الدنيوي، الذي اقتفى غالب آثاره، إلاّ المعيش اليومي في تعدديّته ووجوهه المختلفة وجوانبه الممتدة من رغبة الكلام إلى السجون الموحشة، ومن أنثى الحياة الفقيرة إلى «الضابط الصعيدي»، الذي يختصر الكتابة إلى «أرشيف أمني» لا يموت. ولعل تعددية الحياة هي التي أطلقت نثر غالب الرهيف، حيث اللغة لغات، وللكلمات مواضيعها الملموسة، وللمواضيع المحددة ما شاءت من أنواع الكلام. لهذا، تضمنت رواية «سلطانة» الشعر والنثر واللغة العامية ولغة نظرية تفسّر العالم والأحلام وتنطق المكبوت. ولم يكن هذا الدنيوي، الرخو إلى حدود الابتذال، إلا مجازاً للتاريخ، كما قرأه هلسا، ذلك أن التاريخَ من ممارسات البشر الذين ينتسبون إليه، أصرّوا على شعارات كبيرة ولغة فخيمة، أو آثروا الأحلام النقية وبساطة الكلام. ومع أن الروائي هلسا بدا يوميَّ المنظور بسيطَ الاهتمامات، فقد كانت روايته تسجيلاً كثيفاً للتاريخ العربي الذي سبق هزيمة حزيران 1967 وتلاه. استولد هذا الروائي التاريخ من المعيش اليومي، ورأى نزوع الزمن في أقدار الحالمين، الذين منع عنهم حق الكلام. بيد أن غالب لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل ثقافة واسعة متعددة الوجوه، دفعته إلى الكتابة عن «ابن المقفّع» والرقابة السلطوية، ودراسة المعلقات السبع، وترجمة باشلار وج.د. سالينجر، وتأمل معنى المثقف عند غرامشي، قبل أن يموت وهو يهجس بقراءة الألماني «أدورنو»، الذي نقد المجتمع الاستهلاكي واغتراب الثقافة. أدرك غالب، مبكراً، أن الكتابة الروائية نقد للكتابة التي سبقتها، وأن الكتابة الصحيحة لا تنفصل عن منظور صحيح للسياسة. ولهذا آثر الخروج على التقاليد المحفوظية، والانطلاق من حيّز خاص به، يدور فيه مغترباً، يتحصّن بأحلامه وبدفء المرأة. قال بالاختلاف ومارسه، ومزج الاختلاف بالاشتباك، فنقد يوسف إدريس وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، وصيّر النقد فلسفة ومنهجاً في الحياة. لم يصدر هذا النقد عن ذات أنانية مغتبطة بتصوراتها، بل عن رؤية سياسية، تبحث عن الثورة، وعن منظور وجودي، يرى إخفاق الإنسان لا انتصاره، ذلك أن الشغف بالانتصار تعبير عن أرواح مولعة بالكسب والمنفعة. لا غرابة أن يكون واقعياً، دون أن يكون «واقعياً اشتراكياً»، لأنّ في النظريات قيداً، ولأن روح الزمان العربي لم تكن تبشّر إلا بما جاءت به. شاء هلسا، في منظوره الروائي، أن يقول بأمرين أساسيين، أولهما: لا يمكن اختصار الحياة في تعدديتها إلى شكل وحيد، لأن في تناقضاتها ما يقول بأشكال عديدة. وما القول بشكل وحيد إلاّ تعبير عن عجز عن فهم الحياة، يفضي إلى إفقار الكتابة ومحاصرة الإبداع الأدبي. نقل تصوّره إلى حيّز الممارسة، إذ رواية «الضحك» تختلف عن «الخماسين»، وإذ العملان معاً يغايران «ثلاثة وجوه لبغداد»، وإذ هذه الأعمال جميعاً بعيدة عن رائعته «سلطانة»، التي استعاد فيها «ذكريات أردنية». ترجمت هذه الأعمال تحوّلات التجربة، التي قضت بدورها بتحولات كتابية، برهنت أن الأشكال الكتابية لا تستنفد وجوه الحياة. إنها أولوية التجربة على الكتابة، بقدر ما أنها أولوية التجريب على الأسئلة المعروفة. اقترب هلسا من علم جمال خاص به، يحوّل السيرة الذاتية إلى رواية، ويحوّل الرواية إلى سير ذاتية، ويجعل من هذا التحويل تجربة جمالية، تحتمل الحكاية الشعبية والأسطورة ومبادئ فرويد والكتابة التقريرية والوثائق التاريخية،... كشف في جهده عن جمالية التعدد، التي تترجم الحركة والتطور واللايقين، فالعقول الراكدة تكتفي بعنصر وحيد وتَرجم غيره. يدور العنصر الثاني حول معنى الواقع في تصور هلسا الذي يقول: تنتهي النظرية الأدبية الداعية إلى شكل وحيد إلى القول بواقع بصيغة المفرد، ثابت ولا يمكن اقتراح غيره، واقع سلطوي، خلافاً للتجربة الجمالية المفتوحة، التي ترى وراء كل شكل شكلاً آخر، ووراء كل واقع واقعاً آخر. ذلك أن دور الإبداع الأدبي التوجّه إلى الواقع المحتمل، المحتجب الممكن المتوقع، الذي لا يشكّل الواقع القائم إلا وجهاً فقيراً من وجوهه المتعددة. ولهذا حشد غالب، في روايته «سلطانة»، جملة من العوالم، تضمنت الحلم واليقظة، الطهر والدنس، المعيش والمرغوب، الثابت والمتحوّل،... أخبرت هذه الثنائيات عن عالم جميل سيأتي، وعن عالم نقي وُجد ذات مرة وانتهى. يقول غالب مشيراً إلى فضيلة التعدّد: «إن تفاعل بنيتين مختلفتين يؤدي، دوماً، إلى إفقادهما الرسوخ والثبات، مثلما أن التردد بين ثقافتين ووعيين يخلق تلك الأزمة الروحية، التي جوهرها استحالة اليقين». التعدد حركة، والحركة المتعددة انتقال من الرضوخ إلى التمرد، ومن الوعي الراكد إلى وعي قلق مفتوح: «إن الفرد الذي يتشكّل من مواجهة بنيتين حضاريتين يسعى بسبب ضخامة انفعاله لأن يهز الكون بصرخاته ويعيد صياغته..». ليس هذا الفرد، الذي يصرخ ويكتب، إلا غالب هلسا، الذي كان معجباً بابن المقفع وبغاستون باشلار في آن. جعل غالب من إبداعه الروائي مجالاً لمساءلة القيم، ففضح الشر ودافع عن نقيضه. يبدو هذا التصور ساطع الوضوح في «الخماسين»، التي فصلت بين البشر المدافعين عن الفضيلة وموظفين سلطويين مهنتهم الوحيدة دفن القيم الفاضلة، ومعاقبة المتمسكين بتاريخها. قال غالب وهو يعلّق على الروائي الأميركي جون دوس باسوس: «إن بنية روايات (دوس باسوس) بنية عقلية تستمد حياتها من التاريخ بوصته قوة معاصرة تعيش بيننا، أو تراثاً مجيداً أهملناه، أو خزياً علينا أن نتفاداه. وهذا يعني أن التاريخ ليس مجموعة أحداث وأبطال، بل هو مجموعة من القيم..». مشى غالب مع «قوة التاريخ» وهو يبحث عن قيم غابرة في «سلطانة»، وعاد إلى تاريخ القيم المجيد وهو ينصت إلى إيقاع الهزيمة القادمة في «البكاء على الأطلال». لم يكترث، وهو المدافع عن القيم حتى اللحظة الأخيرة، بالأحداث الجسام، التي ينشغل بها المؤرخون، لم يعبأ بما يدعى بـ«الأبطال»، مقرراً أن الشرف الإنساني هو البطل الأكبر. ومأساة غالب الجميلة، أو جماليته المؤسية، من سمو مراجعه، في الكتابة والحياة، التي أقنعته بالنظر إلى السماء، وأقامت بينه وبين «الزواحف» سداً منيعاً. جمع هلسا بين الروائي والمثقف الدنيوي، إذ للمثقف قوله النقدي اليومي الصريح، وإذ الروائي يدرج القول في متخيّل خلاّق. دفعه هذا الهاجس إلى كتابة دراسات طويلة عن «العقل السلبي والعقل الإيجابي»، وعن «مثقف منظمة التحرير»، وعن المثقف كما يجب أن يكون. حاور ما رآه مدافعاً عن الصواب، ورأى في الحوار برهاناً عن جمالية الحياة يقول: «بين الموتى لا يوجد خلاف ولا حوار، لسبب بسيط: إنهم موتى. والذين يرفضون الحوار المفتوح -الحوار الديمقراطي- هم موتى لم يُدفنوا بعد». الحوار اعتراف بنسبية الحقيقة وإعلان عن احترام العقل والذوات الأخرى، وهو، أولاً، تحديد لمعنى المثقف الحديث، الذي يترك وراءه المطلقات ويتطلع إلى المجهول. «المثقف هو الذي يتمرّد على الصمت ويبوح بالحقيقة»، يقول غالب، تاركاً معنى الحقيقة معلّقاً في الهواء، لأن المثقف الذي يدعي امتلاك الحقيقة يتحوّل إلى شيء آخر، مثلما أن الزعم بامتلاكها تصريح كاذب بتحقيق نصر كامل. عاش غالب أسئلته وأمكنته وقلقه مشدوداً إلى حلم قديم هو: المدينة الفاضلة، الذي يفرض على الكتابة المسؤولة أن تجمع بين الاحتجاج والأمل. يقول في كتابه: «العالم مادة وحركة»: «جسّدت الإنسانية احتجاجها على البؤس وتطلعها إلى عالم أفضل في حلم، ثبتت ملامحه دون تغيير أساسي حتى عصرنا الحاضر. إنه حلم المدينة الفاضلة». تأتي جمالية هذا الحلم من البشر الذين يبشّرون به، أفردوا مكاناً لروائي فاعل العقل بريء الوجه وأقرب إلى الخجل يدعى: غالب هلسا. |
|
|||||||||||||