العدد 74 - اقليمي
 

معن البياري

شهد العراق في نيسان/أبريل الذي يكتمل اليوم، أكثر الهجمات والتفجيرات دموية منذ أكثر من عام، وسقط جراءها نحو 400 قتيل وجرح 850 شخصاً. وكان الأشنعَ فيها الاعتداءان اللذان وصفا بأنهما انتحاريان، ارتكبهما شخصان بحزامين ناسفين، قبيل بدء صلاة يوم الجمعة الماضي قرب مرقد الإمام الكاظم في بغداد، وقضى فيهما أزيد من 70 شخصاً وأصيب أكثر من 130. وكان هجوم وصف أيضاً بأنه انتحاري، ارتكبه مزنر بحزام ناسف، قد سبقهما بيوم في مطعم في المقدادية في محافظة ديالى، ضد زوار إيرانيين، ذكر أن الضحايا 56 شخصاً بينهم 52 إيرانياً أكثر من نصفهم نساء. أشعلت هذه الأحداث التي أعقبت شهوراً من انخفاض ملحوظ في وتيرة العنف الدامي، مخاوف جديّة من استئناف مريع لهذه «الأنشطة»، خصوصاً أنها تستهدف جموعاً من العراقيين الشيعة، ما قد يأخذ البلاد إلى استنزاف طائفي، أشارت وقائع وتطورات أمنية وسياسية غير قليلة إلى ابتعاد العراق عنها، ومضيه إلى مقادير من الاستقرار والسيطرة الأمنية، بعد تكثيف العمليات المشتركة للقوات العراقية وعناصر الصحوات، لا سيما مع اقتراب انسحاب قوات الاحتلال الأميركية في نهاية حزيران/يونيو من المدن، ليبقى ما بين 35 ألف إلى 50 ألف عسكري لحماية المصالح الأميركية وتدريب القوات العراقية.

ولم يستبعد مسؤولون في البنتاغون تصاعد أعمال العنف مع بدء هذه العملية. واللافت أنه فيما كان آذار/مارس الماضي أهدأ الشهور للقوات الأميركية منذ بدء الاحتلال في نيسان/أبريل 2003، وقد خلا من مقتل أي جندي في هجمات مناوئة، فإن الشهر الذي تلاه وينقضي اليوم عرف سقوط 16 جندياً.

ولا يعدو وصف قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال ديفيد بترايوس، الحال الذي أشاعته الهجمات الجديدة بأنه «مقلق» أن يكون تحصيل حاصل، ذلك أن مسار النجاحات الأمنية شهد في الحادثتين الداميتين، وغيرهما أيضاً، انتكاسة ليست هيّنة، أثارت زوبعة من تأويلات بشأن ما قد يكون لهما ولغيرهما، من انعكاسات على السيناريوهات الأمنية والعسكرية والسياسية المتوافق عليها. وأثارت شكوكاً في قدرة المؤسسة الأمنية والاستخبارية العراقية على حفظ الأمن وتحقيقه، وفي تورط مسؤولين في هذه المؤسسة بتدبير هذه الهجمات، عبّرت عنها شخصيات عراقية وازنة، أشارت إلى أنه ليس مقنعاً أن يُحدِث تفجيرٌ انتحاري بحزام ناسف قتل العدد الكبير في التفجير في مطعم في المقدادية، وأن يتسبب بهدم المطعم ومقتل عشرات تحت الأنقاض. وهو الأمر نفسه بشأن التفجير في الكاظمية، حيث من غير المقنع أن يودي حزام ناسف بأكثر من 70 شخصاً.

وإلى هذه ( الظنون ؟ ) التي لا تخلو من وجاهة، يذكّر هؤلاء بأن فصائل المقاومة لا تستخدم الأحزمة الناسفة، وتركّز ضرباتها على الأميركيين، وقد دان «المجلس السياسي للمقاومة» التفجيرات. ويرى قياديون في تشكيلات عراقية - أن الأجهزة الأمنية والاستخبارية ما زالت رخوة، ويرى الناطق باسم التيار الصدري صلاح العبيدي أن «فسادا مالياً وإدارياً ينخرها»، ويتحدث غيره عن ضعف الولاء وحسّ المسؤولية لدى ضباط في المخابرات والاستخبارات والداخلية والدفاع. ويحمّل سياسيون عراقيون هذه الأجهزة مسؤولية ما بات يستجد من هجمات دامية ضد المدنيين في الأسواق والمطاعم والشوارع والمساجد. وذهبت هيئة علماء المسلمين إلى أن التفجيرات الأخيرة هي نتيجة صراع بين الأحزاب المتنفذة في الحكم، واتهمت جبهة التوافق وهي تشكيل من قوى سنية، «المستفيدين من بقاء القوات الأميركية» بالمسؤولية. أما المجلس الأعلى الإسلامي فرأى، بحسب ممثله في النجف صدر الدين القبانجي، أن هذه الحوادث نتيجة إطلاق سراح معتقلين بالعفو، وبسبب مساعي المصالحة الجارية مع «بعثيين وإرهابيين».

وفيما أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، عن تشكيل لجان تحقيق مختصة للوقوف على حقائق تفجيري المقدادية والكاظمية، فإن السؤال يثار عن أي نتائج وصلت إليها لجانٌ تم تشكيلها بشأن أحداث سابقة. وإذا كانت أوساط المالكي رجحت أن عناصر في تنظيم القاعدة قامت بتدبير الجريمتين، وأن تونسيين من هؤلاء هم المرتكبون، بحسب بترايوس، فإن أسئلة أخرى تطرأ عن مدى قدرة هذا التنظيم على استئناف نشاطاته الدموية رغم الحملات الأمنية المكثفة ضد عناصره وأنصاره، وعن تمكنه من لملمة شتاته والحفاظ على حواضنه التي تؤمن وسائله في التسلل والتجهيز والتدبير. وإذا صحّ أنه تم اعتقال أبو عمر البغدادي، زعيم جماعة دولة العراق الإسلامية، الذي يعدّ الزعيم الراهن للتنظيم المذكور، فإن التفجيرات المستجدّة يمكن حسبانها ردا على الاعتقال، ما يعني أن في وسع «القاعدة» المباغتة والمبادرة والتخريب على السلطة بالعنف الأعمى وغيره، ما يصبح معه التشكيك بأهلية القوى الأمنية في محله، وهو ما لايود المرء التسليم به في هذا المقام.

هي أسئلة وشكوك تتوازى مع حالة واسعة من أزمة الثقة بين أطراف العملية السياسية، دلّ عليها عجز البرلمان لثلاثة أشهر عن انتخاب رئيس له، وعجز البرلمان قبل ذلك وبعده، في فرض سلطته الرقابية وأهليته في مزاولة مهماته في متابعة ومحاسبة الحكومة. والملاحظ أن شيئا من التحلل أصاب تحالفات قامت بين القوى السياسية إبان الانتخابات التشريعية في 2005 وبعدها. إضافة إلى انشقاقات في داخل بعض تلك القوى، وتباعدات تتسع فيها وبينها. وهذا كله، مع ما قد تتقاطع معه من تجاذبات إقليمية، واستقواء بالخارج تبادر إليه أطراف معلومة وأخرى غير معلومة، لا يسوق إلى التسليم مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون بأن العراق «يسير على الطريق الصحيح»، وأن الاعتداءات الانتحارية مؤشر على وجود رافضي هذا الطريق، وذلك في تصريحها في أثناء زيارتها «المفاجئة» لبغداد السبت الماضي 24 نيسان/أبريل. والأشواق باقية بأن يعبر العراق طريقه نحو السلام الأهلي الدائم، وقد دلّلت عليها نتائج انتخابات المجالس المحلية في فبراير شباط الماضي، حين كشفت أن الطائفية ليست نزوعاً متوطّناً، وأن الوئام هدف مؤكد، وأن اختيار النظيفين وأصحاب الكفاءات أيا كانت خياراتهم السياسية ومنابتهم، ممكن دائما. هي الأشواق نفسها بأن يتجاوز العراقيون ما يُخشى منه من عنف سقيم، أراد من أراد تنشيطَه واستئناف وتيرته حين أقدم على ارتكاب القتل الأعمى قرب مسجد وفي مطعم قبل أيام، مستفيدا ربما من تشوش سياسي وارتجاج أمني.. وربما أيضا من انسحاب للاحتلال الأميركي يقترب.

العراق: عنف يتجدد على “الطريق الصحيح..”
 
30-Apr-2009
 
العدد 74