العدد 74 - الملف
 

عطاف الروضان

«هناك كيانات سياسية لها جيوش، لكن الأردن جيش له كيان سياسي»، كان كلوب باشا كثيرا ما يردد هذه العبارة التي قالها أكاديمي بريطاني في وصف المملكة الأردنية الهاشمية وعلاقتها بجيشها . هذا الوصف ينطبق في صورة أدق على مدينة الزرقاء، الواقعة على بعد 25 كم شمال شرقي عمان.

ما أن تذكر الزرقاء إلا ويرافقها لقبها الجدير بها: «مدينة العسكر والعمال»، وهناك حتماً من يضيف «الزرقاء بلدة صنعها الجيش»، أو «لولا الجيش لما كانت الزرقاء».

احتضنت الزرقاء الجيش العربي عند تأسيسه العام 1921، وأنشئت فيها معسكرات التدريب على الأسلحة كافة ومدارس الجيش، وأصبحت منطقة خو، شرقي الزرقاء، مقراً لتدريب المستجدين والمكلفين في الجيش.

العقيد المتقاعد بطرس الحمارنة، كان من أوائل من عرفوا هذا المعسكر، فهو التحق بالجيش مترجماً لإتقانه اللغة الإنجليزية، وكان ذلك قبل تعريبه العام 1956، يصف المعسكر قائلا: «كنا نخيم خارج معسكر قوة الحدود؛ مكاتب، منامات الضباط والأفراد، وبنينا من الصاج مطابخ؛ كانت الحياة قاسية لكن المهم أن نثبت أننا جنود مدفعية أكفاء».

كان سلاح المدفعية آنذاك يتكون من كتيبتي ميدان، وكتيبة مقاومات دبابات، ومقاومة طيران من أربع بطاريات، بحسب الحمارنة، الذي كان آنذاك أركان حرب كتيبة، رغم أنه كان في بدايات حياته العسكرية، ما يدلل على ندرة الضباط الأردنيين المؤهلين في البدايات.

يتذكر الحمارنة إنجازاً مميزاً لمجموعة المدفعية الصغيرة في الزرقاء، حيث أنهت خلال سنتين بناء ثكنات لكل الوحدات العسكرية، وتشكيل مدرسة للمدفعية. وكانت تلك بداية معسكرات خو. «كان حجم العمل كبيراً؛ استخدمنا نجارين، حدادين، طوبرجية، معلمي بناء، ومراقباً مدنياً بالطبع للإشراف عليهم، لأنهم ليسوا عسكريين، بالإضافة إلى الصناعات الخاصة بالعسكريين، الملابس والتجهيزات العسكرية، الأثاث، الأغذية، الأفران ومشاغل الصيانة».

العمال المدنيون كانوا في البداية من الشيشان الذين كانوا أول من استوطن الزرقاء ثم جاء أبناء عشائر بني حسن التي بدأت تستقر بوجود المعسكرات، وذلك قبل نزوح الفلسطينيين في العامين 1948، 1967.

كانت تلك بداية توسع الزرقاء التي استقطبت الجنود والباحثين عن عمل، ولعدم سهولة المواصلات، اصطحب الضباط والجنود عائلاتهم في المساكن التي كان الجيش يؤمنها لهم قريباً من المعسكرات، أو في بيوت الطين التي يقومون ببنائها أو استئجارها في البلدة الناشئة.

كان الدور الأبرز للجيش على الصعيد التنموي في الزرقاء هو إنشاء المدارس العسكرية، مؤسساً بذلك للبنية التحتية التعليمية، التي استقطبت أبناء البادية من مختلف العشائر في المملكة، بالإضافة لأبناء الجنود أنفسهم، يقول الحمارنة: «كانت مدارس الثقافة العسكرية محجاً لأبناء العشائر وفرصة ذهبية لهم للاستقرار، ساعدت على ذلك مجانيتها وتوفيرها لمنامات داخلية لهم في ظل تنقل عشائرهم المستمر في بلاد الشام آنذاك.

الأردن الناشئ الواقع بين دول تموج بأحداث سياسية متسارعة، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، كان لا بد له أن يتأثر بما حوله، ولأن الجيش كان نواة المجتمع الأردني تقريباً، فقد كان الشباب فيه سريعي التأثير بحكم قربهم من الأحداث، فنشأ بحكم هذه الحراك، تنظيم الضباط الأحرار في الجيش أسسه ضباط أردنيون تأثراً بتنظيم الضباط الأحرار في مصر، والانقلابات العسكرية في سورية. ويرى الحمارنة أن تلك كانت بالتأكيد «فرصة للملك الحسين لإقصاء كلوب باشا من قيادة الجيش وتعريبه».

الضباط المتأثرون بالفكر القومي حاولوا القيام بانقلاب عسكري، إلا أنه أحبط في بداياته. ففي العام 1957 بدأت حالة من عدم استقرار تسود معسكرات الزرقاء، واستمرت لما يقارب الأسبوع، تسارعت خلاله الإشاعات حول نية الضباط الأحرار تنفيذ انقلاب عسكري على الملكية الممثلة بالراحل الحسين. انتفض العسكر في معسكرات الزرقاء محاولين التوجه للقصر في عمان لنصرة الملك الشاب، فبادر بالتوجه إليهم في معسكراتهم، وتهدئتهم، واستقبلوه مرددين هتافات ضد الضباط الأحرار، معلنين ولاءهم للملك الشاب الذي حصل بتأييد غير مسبوق.

وقد تناول نذير رشيد، وزير الداخلية الأسبق الذي التحق بالجيش العام 1950، في كتابه «حساب السرايا وحساب القرايا» تجربة الضباط الأحرار التي أسسها مع الضباط شاهر أبو شاحوت، محمود المعايطة، وضافي الجمعاني وآخرين، في معسكر الزرقاء العام 1957، مؤكدا أنها جاءت بدافع الغضب على الإنجليز بعد هزيمة 1948، ورفضهم مساعدة العرب.

ويصف رشيد الظروف التي أنتجت فكرة الضباط الأحرار في الجيش بقوله: «كانت الهزيمة قاسية على العسكريين أكثر منها على المدنيين، وكان جنود الجيش وضباطه ينحون باللائمة على قياداتهم العليا السياسية والعسكرية». ويشير إلى أنه «غلب على الضباط الأحرار الأردنيين أنهم في سن متقاربة، أقل من 30 سنه، أتموا التعليم الابتدائي والإعدادي، وكانوا يعتبرون أنفسهم طليعة الشباب المثقف في الجيش، كان التنظيم سرياً ولم يكن بعثياً في الأساس، وإن كان يضم بعثيين. كانت أهدافه إلغاء المعاهدة البريطانية، وتعريب الجيش».

الحمارنة يؤكد أن الأمر لم يكن بالأهمية نفسها التي روج لها، «كنت أشعر أن هناك أفكاراً سياسية يتبادلها الضباط الصغار، كثير منها دار في البيوت، اعتقدت أنها كانت للتسلية، ولا شك أن فكرة الضباط الأحرار كانت نتيجة الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتردية، إلا أنها كانت محدودة».

مرة أخرى كان الجيش في الزرقاء على موعد مع الحسم، لكنه كان هذه المرة مختلفاً، «لم يكن لتثبيت حكم، وإنما لتثبيت وجود دولة»، يقول اللواء المتقاعد عيد الروضان، «في أيلول 1970 بدأت تصل إلى مسامع الضباط والأفراد في المعسكرات أنباء عن تعرض عائلاتهم لـ«إهانات» متكررة من منتسبين للتنظيمات الفلسطينية في المدينة، فبدأ الجيش في الزرقاء بالضغط على الأجهزة السياسية في العاصمة للتحرك وحسم الموقف على الأرض، وتم ذلك خلال عشرة أيام في الزرقاء، في حين استغرق أسبوعين في عمان».

يتذكر أحد أبناء الزرقاء شمس الدين شاص: «كنا في إجازة في الشام وقت الأحداث، لما رجعنا كانت منتهية، والجيش مسيطر على الوضع، واكتشفت أنه تم اقتحام بيتي، لكنني وجدت ورقة من الجيش مضمونها: «الذي قام بتفتيش بيتك هو فلان، إذا وجدت أي شيء مفقود راجع القيادة».

يتابع التسعيني شاص، وهو من أوائل أعضاء فريق كرة القدم التابع لقوة الحدود «ساهم الجيش بتأسيس مشهد اجتماعي حافل في مجتمع الجيش المدني «عوائل العسكر»، فوفر مسابح، سينمات عائلية، وكان الناس يتابعون المباريات في مختلف الألعاب الرياضية التي كانت تعقد في الملاعب في المكان الذي خصص للفلسطينيين بعد هجراتهم».

ويتذكر شاص حرصه، كما غالبية أبناء الزرقاء، على حضور تقليد الاحتفال بيوم الجيش والاستقلال في 25 أيار/مايو من كل عام في معسكرات خو باستعراض عسكري لمختلف قطاعات ووحدات الجيش في احتفالية كبيرة يحضرها عسكريون رسميون عرب وأجانب، «كنا نذهب لمكان الاحتفال في خو سيرا على الأقدام رغم بعد المسافة، ونهتف للجيش والعسكر، كان احتفالا مبهجا».

استمر هذا التقليد العسكري في الميدان الصحراوي في العراء في خو حتى العام 1997.

يقول اللواء المتقاعد عيد الروضان: «المعسكرات كانت العصب الأساسي للحياة في الزرقاء. كانت تضم الجنود من مختلف مناطق المملكة، فلم يكن بالإمكان انصهار أبناء الجنوب والشمال وقرى الضفة الغربية وترابطهم إلا عبر الجيش؛ المؤسسة الأولى».

إلا أن مجتمع الزرقاء المتعدد والمتجانس أضعفه «تراجع تأثير الجيش على المشهد الاجتماعي كما في السابق، بالإضافة إلى الهجرات المتتالية إلى المدينة مما سبب ضغطاً سكانياً على بنيتها التحتية»، بحسب الروضان.

كما أن المواصلات الحديثة سهّلت التنقل، فلم يعد من الضروري أن يصطحب العسكر عائلاتهم معهم. يوضح الروضان: «بعد أن كانت مدينة مقر بالنسبة للعسكريين وعائلاتهم، أصبحت مكاناً للعمل يغادرونه في نهاية الأسبوع أو في نهاية النهار في بعض الحالات».

ويؤكد صاحب محل أحذية في شارع الملك عبد الله في الزرقاء أن ذلك لن يؤثر سلبا على الأوضاع: «ما رح نتأثر اقتصادياً بالإزاحة، أصلاً العسكر وين ما كانوا بيشتروا أغراضهم من الزرقاء حتى الآن».

لقد طورت المدينة نشاطها الاقتصادي الذي قام على تقديم الخدمات لهذا المجتمع الحديث، ونشأ نمط حياة مدني، أسسه أبناء الأردن بضفتيه، الذين جمعتهم معسكرات الجيش في ذلك الوقت.

يتذكر أبو علي، سائق التكسي المولود في إحدى قرى نابلس، والمقيم الآن في وسط مدينة الزرقاء، سنوات خدمته العسكرية في الجيش العربي في خمسينيات القرن الماضي، ويصفها بأنها كانت أجمل سني عمره تعلم فيها «الانضباط والانتماء للأردن والوفاء لفلسطين».

يؤكد أبو علي أن أعمق صداقة هي تلك التي كانت بين «رفاق السلاح»، معددا أسماء أصدقاء من مدن وقرى أردنية وفلسطينية ما زال على اتصال بعدد منهم «بعضهم في الزرقاء، والبعض الآخر عادوا لقراهم في الجنوب، وآخرون استشهدوا في فلسطين».

يستعيد السبعيني أبو علي قصة حب لا يستطيع نسيانها حتى الآن جمعته مع إحدى صبايا بني حسن، ولكن «حالت ظروف دون ارتباطهما». لكن هذه القصة كانت السبب في موافقته على زواج ابنته من زميلها في الدراسة الجامعية، وهو أحد أبناء عشائر بني حسن.

مدينة العسكر والعمال: لولا الجيش ما كانت الزرقاء
 
30-Apr-2009
 
العدد 74