العدد 74 - الملف
 

أمجد ناصر*

تدين الحياة الثقافية في الأردن للزرقاء بقسط كبير. تلك المدينة التي سميتها، مرة، «هبة السيل» (على غرار القول الشائع: مصر هبة النيل) قدمت أسماء أساسية في حياة الأردن الثقافية، سواء من خلال الذين ولدوا فيها أو أقاموا في أحيائها المحشورة بين «السيل» و«المعسكر» (لم يعد الأمر كذلك بعدما امتدت المدينة في كل اتجاه) فترة من حياتهم. لا تحضرني، الآن، قائمة بأسمائهم ولكن لنتذكر أنها مدينة ضمت، ذات يوم، تيسير سبول، فخري قعوار، عائلة عبد الحق الأدبية، محمد ويوسف ضمرة، هند أبو الشعر، بسمة النسور، سعادة أبو عراق، رشاد أبو داود، محمد سمحان، حمودة زلوم، أيمن الصفدي، أسامة فوزي، محمد إبراهيم لافي، موفق محادين، بسام حدادين، ماهر الشريف، عدنان علي خالد، نائل بلعاوي، مأمون حسن.. وغيرهم الكثير. أنا، فعلا، ابن الزرقاء. لم تكن مسقط رأسي، ولكنها مدينة طفولتي ومراهقتي. إن كنت أدين، حياتيا وثقافيا، لمكان أول فهو، بالتأكيد، للزرقاء. اطلالتي الأولى على الثقافة كانت من خلال صالون عدنان علي خالد للحلاقة، ثم أكثر، عبر نادي أسرة القلم الثقافي الذي تأسس في الفترة ذاتها التي شهدت أولى محاولاتي الشعرية.

من خلال «نادي أسرة القلم الثقافي» بدأت أتعرف على الساحة الثقافية الزرقاوية. سميح الشريف، وهو رجل ضخم ذو صلعة لامعة، مهيبة، مهندم دائماً، عمل بنشاط على ضم الذين يكتبون وينشرون في الصحف العمانية إلى جانب من يأنسون في أنفسهم هذا الميل، مثلي. تحوّل مقر النادي في «شارع السعادة» إلى نوع من مقهى ثقافي أخذ ينافس صالون حلاقة عدنان علي خالد في اجتذابه الادباء والمتأدبين، وهناك تعرفت إلى شعراء وكتاب شباب لم يكونوا من رواد الصالون؛

اثنان انعقدت، سريعا، بيني وبينهما صداقة على نار الكلمات المتأججة في صدورنا، هما: مأمون حسن، وإحسان الجلاد.

كنا نتناقش، ساعات طويلة، في مقر النادي أو في «مقهى الكواكب»، في كل شيء: الشعر، القصة، الأفلام الجديدة، ما تنشره الصحافة المحلية، خصوصاً ملحق الدستور الأدبي، من أعمال للكتاب والشعراء المحليين. كان هوس الشعر يستبد بنا أكثر من هموم السياسة التي سأكون على موعد قريب معها، وسيختلط الاثنان معا، كما كانت تمليه متطلبات اللحظة.

كان مأمون حسن شاعراً موهوباً وشخصاً رقيقاً رغم جرمه الذي يبلغ، تقريباً، ضعف جرمي، وقد كنت أذهب معه، أحياناً، إلى بيت ذويه الذي يفوح برائحة فقر مستور، مثلما هو حال بيتنا.

تابعت، بعد خروجي من الأردن، بعض نشاطاته، لكن اسمه اختفى في ما بعد. وعندما سألت عنه أكثر من مرة، أثناء زياراتي إلى الأردن، لم يكن هناك من يعرف عنه شيئاً، ولعله انخرط في حياة أجدى من تلك الحياة البديلة (الحلمية في الواقع) التي تصنعها الكلمات.

لم يكن في الزرقاء مقهي ثقافي بالمعني الدقيق للكلمة. كانت مقاهيها، كما يخيل إلي الآن، للموظفين المتقاعدين والمتعطلين عن العمل، وهم كثر. كنا نلتقي في «مقهى الكواكب»، عندما نضجر من صالون عدنان علي خالد الذي، للإنصاف، لم يضق بنا يوماً رغم أننا كنا نزاحم الزبائن على مقاعده القليلة.

بين صالون عدنان علي خالد (الحلاق والقاص.. كتابةً سوى قصّ الشَعر)، الذي كان معروفاً أكثر من بقية المترددين عليه من الشبان (أمثالنا)، لأنه نشر في الصفحات الأدبية التي تصدر في عمان بعضاً من قصصه القصيرة، وبين «نادي أسرة القلم الثقافي» تعرفت إلى عائلة إبداعية فريدة هي عائلة عبد الحق التي انخرط أربعة من أبنائها في الكتابة الأدبية: بدر وصادق وتاج وأحمد. والأخير الذي بدأ قاصا مبشرا كان في سني، وبالتالي أصبحنا، لفترة من الوقت قبل سفره إلى باكستان لدراسة الطب، صديقين. لعائلة أحمد عبد الحق في ذهني بيت يشبه المستوطنة: أسرة ممتدة، غرف كثيرة، ومصطبة كبيرة سهرنا فيها أكثر من مرة مع عائلته التي كان تعلمها واهتمامها بالثقافة نادراً وسط العائلات الزرقاوية يومذاك.

الوحيد الذي واصل الكتابة الإبداعية من الأخوة عبد الحق الأربعة هو المرحوم بدر، الذي قد يكون من أفضل المواهب القصصية التي عرفتها الساحة الأردنية في ذلك الوقت، إلى جانب كونه واحداً من أرشق كتاب الزوايا الصحافية.

حسدت كثيرين ممن التقيتهم في تلك الأيام على ظروفهم المعيشية الأفضل، أو على تساهل عائلاتهم معهم، ولكن أحمد عبد الحق قد يكون أكثر من حسدتهم.

فقد كان البون شاسعاً بين بيئتي العائلية العسكرية الصارمة، التي لم تكن تطالع صحيفة أو كتاباً، وبين عائلة أحمد التي كان على رأسها شيخ متنور، قارىء، متسامح، وأخوة أكبر منه سناً يشكلون رافعة لكتابته ودرعاً واقيا لها.

لم يواصل أحمد، للأسف، كتابة القصة، فقد استغرقته، على ما يبدو، دراسة الطب الصعبة، الطويلة، تماماً. وبعد أكثر من عشرين سنة على افتراقنا، في ليلة وداعية له في «مستوطنة» ذويه، التقينا مرة أخرى، عندما جاء مع أخيه بدر إلى زيارتنا في مقر الصحيفة في لندن. كان شخصاً مختلفاً عن ذلك الشاب الصغير النحيل الذي ودعته لدراسة الطب في باكستان قبل سفره بليلة واحدة، وما كان يمكن لي أن أعرفه لو التقينا، عرضاً، في الشارع.

كل أولئك الذين التقيتهم بعد تخرجي من المدرسة كانوا يمتلكون معارف ثقافية وسياسية متقدمة عليَّ. اكتشفت، بعد انخراطي المتزايد معهم، أن معارفي الثقافية كانت مثل عملة أهل الكهف مسحوبة من التداول، ولكني تمكنت، بالشغف القاتل الذي تملكني للكتابة، من امتصاص المعارف التي حصلوها من الكتب أو سمعوها من الآخرين، حتى إنني صرت أتحدث عن كتب، أو أخوض في موضوعات، لم أقرأها، أو لم أكن على صلة مباشرة بها! كنت مثل اسفنجة جافة تمتص كل قطرة ماء تقع عليها، متسلحاً بحافظة جيدة قادرة على استظهار مطولات شعرية أو نثرية، حتى من مجرد سماعها مرة أو مرتين.

فاجأتني معارف شابين في سني تعرفت اليهما في تلك الفترة هما عدنان خليل اللفتاوي، ونزار حسين راشد. ففي الوقت الذي كنت ما أزال أقرأ فيه الروايات الكلاسيكية المترجمة التي تقذف بها دار القلم في لبنان إلى أرصفة مدن العالم العربي الخلفية، كان عدنان ونزار يطالعان أحدث ما يصدر من الأدب الوجودي الذي تخصصت فيه دار الآداب من دون سائر دور النشر اللبنانية.

كانت الموجة الوجودية قد انحسرت في مهدها، ولكنها ظلت تتلكأ على قائمة المثقفين والمتأدبين العرب، ولم يكن غريباً، أبدا، أن يزاوج المثقف العربي بين الماركسية والوجودية.

كان عدنان اللفتاوي ونزار راشد، وهما في سني تماماً، نموذجاً لهذا الازدواج الذي تجاوز الاطلاع على الأدب الوجودي، إلى التخلّق بمسلك بعض أبطال رواياته.

ومن خلالهما قرأت رواية «الغريب» لألبير كامو حيث كانا مفتونين بشخصية بطلها ميرسو، التي سرعان ما فتنتني أنا، أيضاً، خصوصا بتلك العزلة الداخلية التي يعيشها وعدم قدرته علي تحقيق تواصل طبيعي مع العالم المحيط. رأيت نفسي في ميرسو، ذلك الشاب الفرنسي المستوطن في الجزائر الذي يقتل شاباً جزائرياً على شاطئ البحر، لا لشيء إلاّ لأن وهج الشمس انعكس من سكينه علي عينيه! وإلى اليوم ما تزال الجملة الافتتاحية لرواية «الغريب» ترن، ببرودها وعبثيتها، في ذهني: اليوم ماتت أمي!

هل كان فيَّ شيء، أصيل من العبثية قبل أن التقي عدنان ونزار؟ أم أن ذلك تسلل إلي، وسكنني طويلاً، بعد لقائي بهذين الشابين اللذين لم يبديا رغبة حقيقية في الكتابة وكانا يمسحان الأرض، على نحو ساخر مرير، بالمتأدبين الزرقاويين وبالزرقاء نفسها كمكان مثالي للاجتماع البشري العبثي؟

فاجأني فيهما اجتراؤهما على اعتبار ما يكتبه الأدباء الزرقاويون فكاهة تستحق الرثاء.

أظن، مرة أخرى، أن السخرية من الكتاب والشعراء الآخرين وشطب نتاجهم (بل وجودهم كله) بكلمة واحدة، تسللا إليّ من عدنان ونزار، خصوصاً الأخير الذي كانت تطقطق خواصره من ضحك عصبي عندما يقرأ قصيدة لشاعر زرقاوي أو يطرح اسم كاتب محلي أمامه، فهما كانا يعرفان شعر الجوار العربي الذي بدا لهما الشعر المحلي، أمامه، مجرد تقليد رديء، عديم الخيال!.

ويبدو أنني تأثرت بتلك النظرة الاستعلائية التي لا تخلو من جهالة حيال أسماء تأسيسية في الشعر العربي، بل حيال السياب نفسه، بطل إطلالتي الأولى على الشعر، عندما صرحت، بكل فجاجة وتنفّج، لصحافي أجرى معي مقابلة صحافية في بيروت: من هو السياب؟ إنه ليس سوى طفولة الشعر العربي الحديث!.

ولعل غرابة أفكار هذا الثنائي المتبرم من حياة مدنية تصوراها كمحطة قطار، المحظوظ هو الذي يستقل القطار راحلاً، نهائياً، عن غبارها السافي، فيما الآخرون يرتعون في بؤس انتظار لا يعوه على رصيف المحطة التي قد لا يمرُّ بها القطار ثانية. أقول لعل هذه الغرابة، في أفكارهما التي تحاول فتح أفق حلمي، أو وهمي، على أمكنة أخرى غير مسماة هي التي جذبتني إليهما، في آخر فترة لي في الزرقاء، أكثر من كل الذين عرفتهم من قبل.

وأينما سمعت، بعد ذلك، أغنية عبد الحليم حافظ «مرت جنبنا» (هل اسمها كذلك؟) التي سمعناه يغنيها لأول مرة وفي بث حي من القاهرة، ستنبعث صورتهما من مطاوي الذاكرة ثانية. سأتذكر عدنان بنظارته الطبية السميكة التي تعكس صورة مضللة لطالب منضبط ومنكب على دروسه، أما نزار فسيقفز إلى ذهني بضحكته العصبية التي تسفه، من دون رحمة، الأفكار الراكدة للحياة الثقافية ونتاجات الساحة الإبداعية، وكل ما لا يروق لمزاجه الناري.

لم ألتق الاثنين مذ ذلك الوقت، ولا أعرف المصير الذي آلا إليه، فهما لم ينخرطا في الوسط الثقافي المحترف الذي تعكسه الصحافة المحلية.. ولكنني، بواسطة أحمد عبد الحق، الذي أبدى وفاءً أكثر مني لتلك الأيام الزرقاوية فظلّ، رغم أقداره التي ساقته، منذ سنين، طبيباً إلى دبلن، على اتصال دائم بعدنان اللفتاوي، وبتقطع معي، فقد تمكنت، أخيراً، من التكلم إلى عدنان بالهاتف، وكان صعباً عليه أن يعرفني من صوتي الغائب طويلاً، المتحشرج من فرط التدخين، وصعب عليه أكثر أن يناديني باسم «أمجد» الذي تلبسني، إلى الأبد، بعد نحو ثلاث سنين من آخر لقاء لنا.

فأنا ما أزال، بالنسبة له، «يحيى»، صاحبه الزرقاوي ذا الجسد النحيل والشعر الأسود الطويل، الحالم، بحماسة ساذجة، بوطن عالمي يسمّى الشَّعر.

كان يعرف أن «أمجد» هو «يحيى»، ولكن الأول اسم يقرأ في الصحف، أما الثاني فهو لذلك الشاب الذي لم يره منذ نحو ثلاثين سنة.

لم يعد عدنان يسكن في الزرقاء، بعد أن انخرط في العمل البنكي الذي لم أكن أظن انه يتوافق مع مزاجه العبثي، فضلاً عن كونه معبد رأس المال الذي ناهضه طويلا كشيوعي عتيق، فمثل كثير من أصحابي الزرقاويين استقر به المقام في عمان التي امتصت عصارة البلاد كلها، وأعادت ضخها في جسد أخطبوطي لا يتوقف عن التمدد. سأقرأ بعد أكثر من ربع قرن على مغادرتي الأردن شهادة لشاعر زرقاوي شاب هو نائل البلعاوي ضمها عدد من مجلة «أفكار» الأردنية أفرد، مشكوراً، ملفاً عن تجربتي الشعرية، ما سيلامس أعماقي في الصميم. لطالما ظننت أن قلة سيتذكرون أيامنا في الزرقاء و«نادي أسرة القلم الثقافي»، لكن مقالة نائل البلعاوي الذي ستختطفه نداءات الشعر المغوية وتقوده إلى أرصفة مدن أوروبية يحلم بها أبناء العالم الثالث من دون أن يعرفوا كم هي باردة، جعلتني أفكر أن الأشياء لا تذهب، دائما، سدى.

فقد علمت من تلك المقالة أن اللجنة الثقافية، التي كان البلعاوي عضواً فيها، قد خصصت ثلاث أمسيات من برنامجها الثقافي لقراءة مختارات من أعمالي التي لم تكن تتجاوز، آنذاك، (1986 ـ 87) ثلاث مجموعات شعرية. حضر الأمسية الثانية، على ما يقول البلعاوي، جمهور أكبر مما هو معتاد في أمسيات الخميس لظن بعضهم أنني موجود شخصياً في الأمسية.

كان مجرد علمي بذلك، بعد نحو خمسة عشر عاماً على تلك الأمسيات، مدعاة امتنان لا يصدق لأولئك الشبان الذين فكروا باستعادتي، ولو شعرياً، من غياب طويل، وبددوا، بلفتتهم الجميلة تلك، إحساسا لم ينفك يرافقني في أن الذين يعرفونني في مكان خطوتي الأولى لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

غير أن أكثر ما لفتني في تلك المقالة ـ الشهادة هو تعاقب الحالمين جيلا وراء جيل على برندة تلك الشقة التي تقع في «شارع السعادة» وكانت تحمل يافطة كتب عليها: نادي أسرة القلم الثقافي.

*شاعر وكاتب أردني يقيم في لندن.

مثقفون في “شارع السعادة”..
 
30-Apr-2009
 
العدد 74