العدد 73 - كاتب / قارئ | ||||||||||||||
الفكر الليبرالي منذ تبلوره في القرن السابع عشر كنسق للأفكار والقيم تم تطبيقه في الواقع الغربي، وهو يمثل الرابطة الأساسية بين الفرد والدولة. شهد هذا المفهوم تغيرات وتحولات في مضمونه واستخداماته في الأدبيات الليبرالية، واتسع نطاقه من الدلالات السياسية القانونية إلى الدلالات المدنية الحقوقية، ثم إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. المواطنة هي تمتُّع الشخص بحقوق وواجبات على قدم المساواة مع بقية شركائه في الوطن، وقدرته على ممارسة هذه الحقوق، وهو ما يعرف بـ«الدولة الحديثة» التي تستند إلى حكم القانون؛ وعلى هذا فمفهوم المواطنة يختلف عن مفهوم الرعية، ففي دولة المواطنة جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم بسبب الاختلاف في الدين أو النوع أو اللون أو العرق أو الموقع الاجتماعي. بالتالي من المفترض أن يحقق القانون المساواة داخل المجتمعات. كما أن هذه المواطنة تعبّر عن نفسها على أرض الواقع في مدى مشاركة المواطنين في الشأن العام، وعلى صعيد آخر لا تكتمل المساواة القانونية والمشاركة السياسية إلا من خلال وضع اجتماعي اقتصادي يحقق للمواطن احتياجاته الأساسية. إذن، نحن أمام مفهوم متعدد الأبعاد، ولا يمكن الاستغناء عن أيٍّ من أبعاده، بل إن انتهاك أحد هذه الأبعاد يقوّض من فكرة المواطنة ككل. أبسط معاني المواطنة هو أن تكون عضوا في مجتمع سياسي معين ودولة بعينها، والقانون يؤسس شرعية الدولة من ناحية، ويخلق المساواة بين المواطنين من ناحية ثانية، ويرسي نظاما عاما من الحقوق والواجبات، تسري على الجميع دون تفرقة من ناحية ثالثة. وعادة ما تكون رابطة الجنسية معيارا أساسيا في تحديد من هو المواطن، ويترتب على المواطنة القانونية أنماط من الحقوق والواجبات: السياسية والمدنية-الاقتصادية والاجتماعية. وتشمل الحقوق السياسية الحق في الانتخاب والترشيح والتنظيم. وتنطوي الحقوق المدنية على كل الحريات الشخصية، والحق في الأمان، والخصوصية والاجتماع والحصول على المعلومات، فضلا عن حرية الاعتقاد والتعبير. وفي قلب الحقوق المدنية تأتي حرية تشكيل تنظيمات مدنية، وحرية الانتقال، والحق في محاكمة عادلة. أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فتشمل الحق في العمل والتعليم والسكن والملكية. المواطنة ليست معنى قانونيا فحسب، ولكنها أيضا ممارسة وواقع، فلا معنى لحق قانوني منصوص عليه دون القدرة على ممارسة هذا الحق. ومن أساسيات المواطنة المشاركة في الحياة العامة، وتشمل مجالات كثيرة، مثل: القدرة على الترشيح والتصويت في الانتخابات بحرية، والحق في انتخابات حرة ونزيهة وغيرها من الآليات الديمقراطية المؤسسية. ومن مضامين المواطنة أيضا حق كل مواطن في الحصول على فرص متساوية، ويتطلب ذلك توفير الخدمات العامة للمواطنين، وبخاصة الفقراء والمهمشون، وتمكينهم من النفاذ إلى الخدمات الأساسية. ما سبق يرتبط بقضية مهمة، وهي العضوية السياسية، أي العضوية في مجتمع سياسي معين، وهو ما يعادل الانتماء الوطني وليس مجرد الإقامة فيه، فقد يقيم المواطن في وطنه ولا يشعر بالانتماء نتيجة عدم حصوله على حقوقه، أو بسبب ما يواجه من تمييز على أرض الواقع. تشكل قضية المواطنة واحدة من أبرز القضايا على أجندة الجدل والحوار السياسي في المجتمع الأردني؛ وذلك لارتباطها الوثيق بأي تحول ديمقراطي حقيقي. وإذا كان لا يمكن ممارسة حقوق المواطنة في الوعي الاجتماعي العام، فمن المؤكد أنّ عملية بناء الوعي العام بحقوق المواطنة يتطلب منظمات قوية وفاعلة وقادرة على نشر ثقافة المواطنة والديمقراطية، ورصد أي انتهاكات لحقوق المواطنة، فالتحول الديمقراطي الحقيقي هو الأرضية الأساسية التي تقوم عليها فكرة المواطنة، وما دام أن هناك قيوداً على هذا التحول، ستظل قضية المواطنة قائمة من دون حسم. هناك مؤشرات قانونية وسياسية واقتصادية يمكن أن تكون دليلا على تجاوزات أو انتهاكات للمواطنة في الأردن؛ فعلى سبيل المثال يحد الوضع الاقتصادي من حرية تمتع المواطن بحقوق المواطنة، ومن ثم قدرته على المشاركة في الشأن العام، فلا يتمتع الفقراء بحقوق المواطنة كاملة، ويعود ذلك إلى ضعف قدرتهم على المطالبة بحقوقهم ومواجهة أي تمييز يواجههم وعدم امتلاكهم قنوات وآليات توصيل مطالبهم لصانعي القرار. وفي المقابل نجد الأكثر ثراء هو الأقدر على المطالبة بحقوقه، بل والضغط في سبيل الحصول عليها. هناك مشكلات حقيقية تتعلق بممارسة المواطنة الاجتماعية، سواء في ما يتعلق بتفشي الفقر وتآكل الطبقة الوسطى، أو ما يطلق عليهم الفقراء الجدد، وتردي الخدمات المقدمة للمواطنين وتزايد معدلات البطالة. المشكلة في هذا السياق أنّ المجتمع الأردني يواجه حالة تتعمق يوما بعد يوم، وهي ارتباط المواطنة بالثروة، فمن يمتلك يستطيع أن يتمتع بحقوق المواطنة، والعكس صحيح. ومن يمتلك المال يستطيع أن يجد معاملة أفضل على يد مؤسسات الدولة وغيرها من المؤسسات، فالمواطن الفقير ليس كالمواطن الغني. يرتبط تحقيق المواطنة السياسية، أي المشاركة في الحياة العامة، بالمواطنة الاجتماعية، أي التمتع بالوضع الاجتماعي اللائق، فإذا تضاءلت القدرات المالية للشخص، فإن هذا يدفعه إلى العمل المضني لتوفير احتياجاته الضرورية، ولن يجد وقتا لممارسة العمل السياسي. وإذا كان الترشيح للانتخابات وما يرافقه من إنفاق مالي كبير على الحملة الانتخابية أصبح أحد الاشتراطات الأساسية لتأدية دور سياسي في المجتمع، فإنّ الفقراء بالضرورة سيكونون خارج سياق المنافسة. مما يؤدي إلى وجود كيانات حزبية نخبوية وهشة لا تستند إلى قاعدة اجتماعية ولا تستطيع التواصل المباشر مع المواطنين، والنتيجة: غياب المنافسة السياسية التي تسمح لكل من يريد أن يدخل الحلبة السياسية أن يدخل. في الممارسة اليومية، المواطنة ليست نابعة من الانتماء للوطن، والوطن ليس هو الأصل، وهناك انتماءات عدة تسبق الانتماء للوطن، وتنتهك مبدأ المساواة، وتميز بين المواطنين، وتوجد نوعا شاذا من المواطنة المنتهكة بالانتماء للمال والثروة، أو بالانتماء للنفوذ الاجتماعي والسلطة. في ظل هذه المواطنة، فالمواطنون أمام القانون ليسوا سواء، وفي ظلها الوطن ليس للجميع، بل لملاّك الثروات، وأصحاب الحظوة والنفوذ والجاه والسلطة. فيصل الغويين |
|
|||||||||||||