العدد 73 - ثقافي
 

مراجعة: جيفري شاد*

كتاب فروما زاخس الطموح، ولكن المتواضع، يركّز على العديد من كُتّاب القرن التاسع عشر في بيروت ممن كتبوا عن النهضة العربية، ويُعاد تفسير أعمالهم بوصفهم مهندسي الهوية السورية تحديدا. يأتي الطموح من أن ذلك يتطلب من زاخس أن تنافس إرث ألبرت حوراني. إلى ذلك فإن زاخس تزعم أن بناء هوية سورية سابق لأحداث العنف التي نشبت بين العامين 1858 و1860، حيث احتضنها – هي و«الطبقة الوسطى» المسيحية العربية التي حملتها – بلاطُ الأمير بشير الثاني (1788-1840) في جبل لبنان.

زاخس متواضعة، فهي تحجم عن الاشتباك مع أولئك الذين يزعمون أن هؤلاء أبطال ثقافيون عرب أو لبنانيون. ورغم أنها تعرف العملية التي تحللها بوصفها مثالاً لـ«ما قبل القومية»، فإنها تبتعد عن المضامين الغائية والسياسية لتلك العبارة، مفضّلة أن تكتب، وبغموض أحيانا، عن تجليات «المفهوم» و«الفكرة» و«الهوية» السورية. وفي إحدى الحالات، يصبح التواضع مثيرا: فنقاشها لتصوير بطلة في رواية تاريخية (ص 1183-212) لا يشير إلى أكثر من احتمالات تحليل جنوسي مضخم لهذه المصادر. عموماً، فإن كتاب زاخس هو شرح ذكي لأجندة أبحاث مستقبلية بقدر ما هو دراسة حالة.

تقوم أطروحة زاخس على أن ازدهارَ الإمارة الشهابية في جبل لبنان، وفي ما بعد، نمو بيروت بوصفها ميناء، قد نهض بالبرجوازية التجارية المسيحية (تفضّل زاخس أن تدعوها «الطبقة الوسطى») التي تبنت هوية عربية ثقافياً، سورية إقليمياً، وعثمانية سياسياً. إحدى شرائح هذه الطبقة كانت مجموعة من «المتعلمين» الذين أثْروا الهوية بالشعر والكتابات التاريخية والصحافة، بما في ذلك الروايات التاريخية المسلسلة. هذه «السردية السورية للطبقة الوسطى البيروتية» (ص 5)، كانت تهدف إلى «خلق ذات جديدة، أو ذات جمعية من شأنها شمول سكان المنطقة بأكملها، سواء كانت مسلمة أو مسيحية» (ص 8). ورغم الأساس العلماني والمناطقي لهذه الهوية، ورؤيتها المتجاوزة للطائفية والتفاعل الإنتاجي للطبقة المتعلمة المسيحية مع المسؤولين العثمانيين والمثقفين المسلمين على حد سواء، فقد كانت «من حيث الجوهر هوية عربية مسيحية» (ص 4). كانت تلك وطنية مناطقية في «سورية» كما فُهمت حديثا (سورية وليس بلاد الشام)، والتي لم تكن تطمح إلى استقلال «قومي»، رغم أنها دعت إلى وحدة إقليمية واستقلال ذاتي مناطقي تحت الحكم العثماني.

لكي تدعم أطروحتها، تعتمد زاخس على عدد كبير من المصادر أهمها الكتابات المنشورة لشخصيات تحللها. وبين المصادر الأرشيفية، تولي أهمية كبيرة لسجلات مجلس مفوضي البعثات الخارجية الأميركية. وهي تناقش خمسة فصول على التوالي: أصول «الهوية السورية» خلال حكم الأمير بشير الثاني؛ والتطور المتزامن للطبقة الوسطى المسيحية، و«الهوية» السورية ومدينة بيروت؛ وأثر الإصلاحات التنظيمية، وبخاصة إعلان ولاية سورية؛ والتفاعل بين المبعوثين الأميركيين والمتعلمين البيروتيين؛ وكيف تم التعبير عن الهوية السورية من خلال أجناس أدبية متحولة. هذه الفصول غير متساوية من حيث الطول، ومتفاوتة في جودتها، فكل موضوعة خاصة بفصل ما تستحق كتابا قائما بذاته. ويحتوي الكتاب أيضا على خاتمة وفهرسين.

نقطة القوة الرئيسية في كتاب زاخس هي الارتباط الذي تستنتجه بين مصالح الطبقة الوسطى وتطور هوية مناطقية سورية، فتجار الجبل، وفي ما بعد بيروت، نظروا إلى سورية بمجملها بأكثر مما نظروا إلى مناطقهم المحلية الخاصة بوصفها حقلا لعملياتهم، ولم تكن صدفة أن المتعلمين من هذه الطبقة – الذين كانوا في العادة من أقارب هؤلاء التجار – عبّروا عن وطنية مناطقية سورية. لا تبدو زاخس حاسمة في هذا الشأن، لكنها تثبت بجلاء وجود رباط وثيق بين المصالح الاقتصادية والسياسية للطبقة الوسطى هذه وتوجهاتها الثقافية. وهنا يتذكر القارئ ملاحظات حنا بطاطو على الجذور العروبية لحزب البعث في النظرة الطبقية للوسط التجاري الدمشقي لميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار.

وتفضّل زاخس أيضاً القوى الداخلية على الخارجية في تطوير هوية سورية محددة. ورغم إيلاء فضل للبعثات الأميركية على التأثير القوي للمتعلمين، ويبدو ذلك جليا في الاستعاضة عن بلاد الشام بسورية، فإنها تستخلص أنها «شجعت عملية ذات ديناميات محلية كانت قيد النشوء، لكنها لم تبدأها» (ص 150).

ترفض زاخس الرؤية المركزية الأميركية للنهضة، التي كانت سائدة سابقا، مشيرة إلى تطورات محلية من قبيل تأسيس مدرسة عين الوراقة العام 1789، وإعادة تنظيم إدارة الأقاليم العثمانية العام 1860، بوصفها أكثر أهمية في تطوير وعي سوري عربي من تأسيس الكلية البروتستنتية السورية.

رغم نقاط القوة في كتاب زاخس، إلاّ أن بعض العناصر لا تلقى من الاهتمام ما تستحقه ربما، فمثلا، الفترة الحرجة للحكم المصري بقيادة إبراهيم باشا لا تعطى سوى القليل من الانتباه المتقطع، حيث يبدو إبراهيم راعيا للأمير بشير. وبالمثل، فإن أحداثا أخرى تفكَّك عن سياقها أو أنها تقدم على أن صلتها بالموضوع ليست واضحة تماما، مثل أحداث العنف العام 1860، والتنظيمات (التي تشير زاخس إلى أنها بدأت العام 1856 وليس 1839)، أو شعارات «جمعية بيروت السرية». وتعيد زاخس تفسير ذلك (ص 119 – 25) بوصفه تعبيرا ناضجا للوطنية السورية التي كانت تناقشها أكثر من كونها، كما يقول جورج أنطونيوس، التعبير الأول للقومية العربية السياسية. وبهذا التأكيد كان يمكن لزاخس أن تقدم النص الكامل للمنشورات، بدلاً من تقديم مقتطفات منها. وأهم من ذلك أن زاخس، بسبب تأكيدها السمةَ غير السياسية للهوية السورية كما تشير، فإن هذه الهوية تحتاج إلى استكشاف أكثر وضوحا وثراء لتحولات معاني تعبيرات مشحونة مثل «البلد» و«الوطن»، مثلما فعلت في مجادلتها لنقض ما قاله أنطونيوس، التي تُظهر فيها أن الاستقلال في سياق المنشورات يعني «الاستقلال الذاتي»، وليس «الاستقلال التام».

رغم الانتقادات، يعدّ كتاب زاخس إضافة إلى الأدبيات المتنامية حول الهوية والطبقة في الشرق، هوية تحرص على ألاّ تمضي في جدلها إلى ما هو أبعد من دلالتها، وهو ما يرسي أساسا لأجندة لأعمال مستقبلية.

* قسم التاريخ، كلية أولبرايت، جامعة ريدنغ، بنسلفانيا

بالتعاون مع:

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط

International Journal of Middle East Studies

هوية عربية ثقافياً، سورية إقليمياً وعثمانية سياسياً
 
23-Apr-2009
 
العدد 73