العدد 73 - ثقافي | ||||||||||||||
فيصل دراج الفار: «عارياً أمام الحقيقة» (حوارية فكرية لأوجاع دينية)؟ يخرج بما شاء، لأن الكتاب يقول بـ«الحوار»، ولا يقترح حقائق نهائية، ويعلن، في عنوانه، أن الاقتراب من الحقيقة يفترض تحرّر الإنسان من جملة العوائق التي تمنع وصوله إليها. يغدو الهدف أكثر ثقلاً وأشد صعوبة حين يلامس السؤال «الحقيقة الدينية» ، التي إن أدركها عقل مستنير أمدّته بالنور، وإنّ مسّتها عقول مغلقة أصبحت «وجعاً» من أوجاع الحياة الكثيرة. تأملَ الكتاب الحقيقة ونقائضها، ونظر إلى الدين في تأويلاته المحتملة، وتطلع في الحالين إلى سعادة البشر. يعبّر «العري أمام الحقيقة» عن مشروع يمزج بين الصدق والمعرفة، إذ لا معرفة إلا بوعي يميّز الزائف من الحقيقي، وبين الشجاعة والصدق المعرفي، ذلك أن «العري الفاضل» مواجهة مع أنصار العادات المستبدة. لهذا يتلامح في كلام «الفار»، وهو يصرّ على بحث حقيقي عن الحقيقة، شيء من كلام طه حسين في كتابه «في الأدب الجاهلي»، الذي أراد إنصاف العقل وعدم الإساءة إلى أحد. والواضح في مسار إنسان أراد أن يكون عارياً أمام حقيقة عارية أمران: الاعتراف الواضح الصريح، الذي لا مساومة فيه، بـ«الأنا»، أو بالذات الإنسانية التي لا تختصر إلى «الجماعة»، والإيمان بالعقل المفيد، الذي يفصل بين الفكر الفاعل و«العادات الفكرية»، التي تلقن الإنسان الإجابات والأسئلة معاً. تصرّح نبرة الكتاب السجالية بـ«تجربة الإنسان المغترب» الذي أراد شيئاً وأراد غيره له شيئاً آخر، أو الذي أضاع شيئاً وأراد أن يستعيده من جديد. ومع أن للاغتراب وجوهاً متعددة، تمس المسوح والممنوع ومكان الإقامة وحاجات الجسد، فإن الاغتراب الذي عالجه الفار يتمثل بـ : «الاغتراب الفكري»، الذي يفرض على الإنسان معارف لا يقتنع بها، ويمنعه عن التصريح بما يرضيه ويقبل به. وقد يكون الأمر أكثر صعوبة حين يدور الاغتراب الفكري في «حيّز مقدس» قوامه الاختزال القاهر، إذ رجل الدين هو الوكيل الوحيد المعتمد للنص الديني، يقاسم نصه الحقيقة وينطق بالنيابة عنه، وإذ من يسائل رجل الدين زنديق مهرطق جدير بالحرْم والمعاقبة. بل إن التجربة تصبح أكثر «إيجاعاً» حين يكون «السائل»، أو «العقل النقدي»، مؤمناً بالكتاب وبإمكانية قراءته بشكل آخر «يؤنسن النص» بما يجعله امتداداً لأشواق الإنسان ويجعل من المؤمن العاقل المتسامح امتداداً له. جورج الفار في «حواريته» مؤمن صريح الإيمان، وما يقول به يمس أمرين محددين: «تصنيع الإنسان المتمثل» و«الفرق بين الدين والأيديولوجيا الدينية». الأمر الأول عرفته أيديولوجيات وسلطات متعددة، فقد أنتجت الفاشية منظمات جماهيرية متماثلة اللباس والحركة والانضباط والمعايير، وقال الماركسيون، ومن وجهة نظر حالمة، بـ«الإنسان الجديد» الذي ينبثق من وحدة المادية التاريخية وحزب الطبقة العاملة، وخرج القوميون بحركات شعبوية عالية الصوت قليلة الأسئلة.. نقدَ الفار الاستبدادَ بالإنسان وعقله، ولم يشكّك بالحقيقة الدينية، مطالباً بأنسنة التأويل الديني، والاعتراف بأن الدين جاء من أجل الإنسان. بل إن الحوار المتسامح بين الإنسان والمعطى الديني «يرتقي» بهما معاً، حيث يتكشّف الدين في قيمه الراقية التهذيبية، ويتكشّف الإنسان مخلوقاً نوعياً ينشدّ إلى السماء ويتطلع إلى الجمال الإلهي. شيء قريب مما قال به اللبناني جبران خليل جبران، قبل نحو قرن من الزمان، الذي نقد المؤسسة الدينية نقداً شديداً وكان عاشقاً للسيد المسيح. دافع الفار عن العقل الطليق، بلغة طه حسين، وعن موضوعية المعرفة، التي لا تتحقق إلا بالتحرر من الأحكام والعادات المسبقة، كما قال ديكارت، التي لا يمكن الارتقاء إليها إلاّ بـ«العري الشامل». هاجس هذا «الفيلسوف المتمرد» هو العدالة، إذ خروج الإنسان من مؤسسة لا تقنعه عدالة مع الذات، وإذ نشر هواجسه والإعلان عنها عدالة مع الآخرين، وإذ الدفاع عن حق الإنسان العاقل بالتصريح بما يعتقد هو العدل بعينه. بدأ الفار باغترابه الخاص، الذي يسرد تجربة محددة في مؤسسة دينية، وعبّر عن «اغتراب المثقف النقدي»، الذي يحترم عقول الآخرين ويرى في عقله المفيد مرجعاً ذاتياً، وانتهى إلى العلاقة بين المعرفة والعدالة، من ناحية، وبين التعليم المستبد والمنافع الذاتية، من ناحية ثانية. هذا الأمر هو الذي قاده، ضمنياً، إلى التمييز بين: الدين، الذي يحيل على القيم الفاضلة؛ والأيديولوجيا الدينية، التي تحيل على القيم التي تريدها المؤسسات المسيطرة. لا غرابة أن يخترع رجل الدين، الباحث عن مصلحته، تأويلاً ضيّقاً سكونياً خاصاً به، وأن تلجأ بعض السلطات العربية التي تنقصها الشرعية، كما يقول عبد الله العروي، إلى تزوير تعاليم الإسلام، كي تبرّر ما تود تبريره وتقمع ما تشاء قمعه. فالدين، جوهرياً، تجربة روحية ذاتية، تتسع وتضيق بثقافة المؤمن أو بجهله، وبقدرته النقدية على تقويم تجربته ومساءلتها. ولعل مراكمة جورج الفار لمعارف مختلفة،كما عقله اليقظ القلق المتسائل، هو الذي قاده إلى التمسك بالسيد المسيح وإلى مغادرته المؤسسة الدينية ، ذلك أن الأخيرة تدافع عن «المؤمن»، بينما يدافع الفيلسوف عن «الإنسان». وما «العري» إلا توسيع عقل الإنسان الذي يكره الزيف ويندفع إلى مواساة البشر. يغترب الوعي المثقف حين تعوزه حاجاته الثقافية، ويغترب الوعي المؤمن حين لا يرى في التعليم الديني طريقاً إلى الاطمئنان والحرية. فقد لاحظ الفار إضافة إلى قضايا أخرى، أمرين يلح عليهما «التعليم الرسمي» إلحاحاً شديداً: ضرورة انصراف «المؤمن» إلى عبادة الله انصرافاً كاملاً، وتأبيد صورة «الإنسان الآثم» المشبع بالخطيئة. يقول عن الأمر الأول: «كنت أقول دائماً إذا كان الله كلي القدرة، فبالتالي ليس هو بحاجة لي أنا الإنسان الضعيف لأن أدافع عنه، بل هو الإنسان الضعيف الذي هو بحاجة إلى دفاعي وعملي وتضامني معه» (ص 7). يرفض هذا التصور العلاقة الشكلانية بين المؤمن والله، التي تعيّن الإيمان اختصاصاً مغلقاً، ويطالب بعلاقة واقعية توحّد بين المؤمن والله والبشر، لأن الإيمان الحقيقي يتجلى في اهتمام المؤمن بمخلوقات الله جميعاً، والضعفاء منهم بخاصة. ويقول عن الأمر الثاني: «أما الغريب في أمر الوعظ الديني أنه يُكثر من الحديث عن فضائل الله مقابل خطيئة الإنسان، لذلك يعدّ الإنسان عاجزاً عن الخير الكامل ومع ذلك يتحمل هو مسؤولية وجود الشر في العالم. فهل من المنطق، القول إن الإنسان يتحمل مسؤولية الشر في العالم ، وهو غير مالك لأمره؟» (ص 42). تقول التربية التقليدية، كما يرى جورج الفار، باختصاص مزدوج: اختصاص إيماني مغلق يختصر الحياة المؤمنة إلى علاقة بين الإنسان وربه، كما لو كانت الدنيا متاعاً فاسداً، واختصاص آخر يعهد إلى الإنسان الآثم أن يصرف حياته كلها في غسل «الخطيئة»، التي تحول بينه وبين الخير. يكون الإنسان، في الحالة الأولى، أنانياً، وفي الحالة الثانية عاجزاً وناقصاً، ويكون في الحالين خارج المشاغل والمشاكل الإنسانية. لهذا يطالب الفار بتصور للدين، ينفتح على اليومي والواقعي والمعيش والملموس، ويسهم في علاج القضايا الإنسانية بقدر ما تسهم وقائع الحياة اليومية، في توسيع تأويل النصوص الدينية. واقع الأمر أن السؤال كله يدور حول : سلطة الكتب وسلطات الحياة، وفاعلية العقل وسطوة العادات الثابتة. وعلى هذا فإن الأمر الواجب إصلاحه هو العقل القارئ، لا غيره، لأن العقل المستنير يأتي بقراءة مستنيرة، على مبعدة من عقول فقيرة مستبدة، تفقر ما تقرأه وتستبد به. فالقراءة العقلانية التي جاء بها الشيخ محمد عبده، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تختلف كلياً عن «الفولكلور» المزدهر هذه الأيام، الذي ينسب إلى الإسلام ما ليس فيه، ويجهل الحقيقي الذي يقول به. ولعل علاقة القراءة بالحرية هي التي أدرجت، ولو بقدر، موضوع «لاهوت التحرير» في كتاب جورج الفار، لأنّ ما يقول به ينطلق من تحرير الإنسان، الذي يستطيع أن يعثر في «الدين الإلهي» على سند له. سرد جورج الفار في مساره شوق الإنسان إلى المعرفة، ومايز بين الحقيقة الدينية، التي ترضي في الإنسان حاجة، والحقيقة العلمية التي تشبع حاجات إنسانية أخرى. والحقيقة الأولى ثابتة مستقرة، لها حيّزها الخاص وقضاياها المرتبطة بها، بينما الحقيقة العلمية متطوّرة متغيّرة متنوعة. أكثر من ذلك أن الحقيقة الأولى ترضي أسئلة الروح الحائرة أمام قضايا الموت واللامتناهي، في حين أن حقائق العلم من حقائق الحياة العملية، التي لا يمكن اختصارها إلى صيغ نهائية ثابتة. العلم يفسّر وجوهاً، على مستوى الطبيعة والمجتمع. ولعل قلق الإنسان المتجدد، كما فضوله المعرفي، هو الذي يدفعه إلى حقل الفلسفة، الذي يرضي فضول الإنسان في وجوه كثيرة، ولا يرضيها جميعاً. ولهذا ينتقل الإنسان من الدين إلى الفلسفة، أتعارضَ هذان الحقلان أم لم يتعارضا، لأن عقل الإنسان متعدد، ولأن أسئلته تحتاج إلى إجابات متعددة. «عارياً أمام الحقيقة» درس في الصدق والنزاهة، يقبل بأفكاره البشر الذين يعترفون بالإنسان في أحواله المختلفة والمتناقضة، التي تحتمل الضعف والقوة، ويرفضها هؤلاء الذين يمارسون الحقيقة بشكل كاذب، ويعطون لصناعة الكذب وجهاً يشبه الحقيقة. |
|
|||||||||||||