العدد 73 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي برحيل المسرحي العراقي الكبير والشامل قاسم محمد، في الأسبوع الأول من نيسان/ أبريل الجاري، فقد المسرح العربي واحداً من أبرز مبدعيه، وصانعي ملامحه الحديثة، ورؤاه التنويرية الطليعية على مدى نصف القرن الماضي. قدّم قاسم محمد نحو مئة عمل مسرحي، منذ بدأ مسيرته الإبداعية مخرجاً ومؤلفاً وممثلاً ودراماتورغاً ومترجماً وباحثاً وأستاذاً للمسرح، من أبرزها: «النخلة والجيران» عن رواية غائب طعمة فرمان، «بغداد الأزل بين الجد والهزل»، «أضواء على حياة يومية»، «كان يا ما كان»، «أنا ضمير المتكلم»، «مجالس التراث»، «طال حزني وسروري في مقامات الحريري»، «رسالة الطير»، «الباب»، «العودة»، «الملحمة الشعبية»، «المالك والمملوك»، و«محاكمة فنس بن شعفاط». وهذه المسرحية الأخيرة من تأليف عبد اللطيف عقل، وقد أخرجها قاسم محمد للمسرح الأردني في مطلع التسعينيات. أهم ما ميّز قاسم محمد بين الجيل الثاني في المسرح العراقي، أنه أول من نقل الاهتمام من النص المسرحي الأجنبي، في الأصل، إلى ما يوازيه، بل يفوقه أحياناً، من النصوص العربية، المؤلَّفة أو المقتبسة من التراث الأدبي والموروث الشعبي (روايات، حكايات، رسائل، أساطير، مقامات، أشعار، حكم، طرائف... إلخ)، بخاصة الجوانب الجدلية فيه، التي تضيء قضايا معاصرة في حياة الفئات الشعبية الكادحة، وذلك بتأثير من ثقافته اليسارية التي اكتسبها أثناء دراسته في موسكو، وبأسلوب يجمع بين العمق الدلالي والتعبير الجمالي سهل الوصول إلى المتلقين، على اختلاف شرائحهم الاجتماعية. كان لنشأته في حي شعبي ببغداد أثر كبير في صوغ وعيه، وانحيازه إلى عذابات الناس البسطاء، واختيار أبطال مسرحياته من عالم المهمشين، هذا العالم الذي استقى منه مضامين تلك المسرحيات وأشكالها. في هذا الصدد يقول المخرج والممثل البارز فاضل خليل، الذي مثّل معه العديد من المسرحيات في فرقة المسرح الفن الحديث: «كان مسكوناً بهؤلاء الناس، دائم البحث عما يقلقهم، محاولاً بإخلاص أن يجيب عن تساؤلاتهم، وعما يخلصهم من مخاوفهم.. يبسط المضامين التي يختارها منهم أمامهم، ليكونوا عليه الشاهد والقضية. وكذلك الأشكال التي يختار منها أحلاها وأجملها وأقربها إلى قلوبهم، وبصراحته أضحكهم ثم أبكاهم». في الوقت الذي انشغل فيه الكثير من المخرجين بالبحث عن أشكال واتجاهات مسرحية عالمية ليقلدوها، وضع قاسم محمد نصب عينيه إجراء تغيير جذري في الفهم المتداول للمسرحية الشعبية في العراق. تمثلَ ذلك في عرض سيظل محفوراً في الذاكرة الجمعية هو «النخلة والجيران» (1969)، الذي أحدث انعطافةً مهمةً في المشهد المسرحي العراقي، بل عدّه بعضهم ثورةً على الصيغ القديمة المكرورة، أعادت المسرح إلى واقعيته الشعبية، وقد أصبح هذا العرض في السبعينيات نموذجاً معيارياً لما يجب أن يكون عليه العرض الشعبي. في العام 1974 خطا قاسم محمد مع عرض «بغداد الأزل بين الجد والهزل» خطوةً مهمةً في مسرَحة التراث والتجريب في متونه التي تحتوي على جذور ومكونات درامية وطقوس احتفالية، بادئاً به سلسلة عروض مبتكرة ترك من خلالها بصمته المميزة في المسرح العراقي والعربي. لقد عثر في هذه التجربة على ضالته في كتب الجاحظ، وأدب المقامات، ورسائل أبي حيان التوحيدي، وشعر الكدية في العصر العباسي الأول، وفي السوق البغدادية القديمة والتناقضات الاجتماعية (الطبقية) التي عصفت ببنية المجتمع العربي الإسلامي في القرنين الثالث والرابع الهجريين, وما انطوت عليه تلك التناقضات من صراعات اجتماعية أفرزت شخصيات معروفة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، عاشت في بطون تلك المتون التراثية. انتقل قاسم محمد في مسرحية «كان يا ما كان» (1977) إلى الموروث الشفاهي المحلي المدون حديثاً، سعياً منه إلى «تأصيل عرض مسرحي شعبي»، كما جاء في كلمته التي تضمنها دليل العرض. و«يتمثّل هذا الموروث بالحكايات الشعبية البغدادية التي كانت تُنشر آنذاك في مجلة «التراث الشعبي»، وقد مزج في صياغتها بين المنحى السردي والمنحى الدرامي في فضاء المقهى الشعبي، وعبر شخصية «القصّخون» (الحكواتي باللهجة العراقية)، الذي يجلس مع رواد المقهى في الزاوية اليمنى السفلى من الخشبة ليروي حكايةً يجري تجسيدها (خيالياً) على المسرح. ظهرت براعة محمد في الربط بين حكايتين شعبيتين مستقلتين عن بعضهما بعضاً، هما حكاية «تنبل أبو رطبة» وحكاية «بنددر». وجاء العرض وكأنه بني على حكاية واحدة. ويتضح تأثر الراحل في هذه التجربة بأجواء بعض مسرحيات سعد الله، التي أطلق عليها صفة «مسرح التسييس»، كبديل عن «المسرح السياسي»، وهو شكل مسرحي يوحّد الخشبة بالصالة، في علاقة تفاعليّة تفترض الحوار الحيّ، ومتعة الفرجة الشعبيّة. كان قاسم محمد مسكوناً بقضايا الشعوب، إضافةً إلى قضايا شعبه، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تناولها في مسرحية «أنا ضمير المتكلم»، موظفاً فيها قصائد لشعراء المقاومة سميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق زياد ومعين بسيسو، ومواقف إنسانية وثورية لبيتر فايس وبيتر بروك وبرتولد بريخت وآخرين، في مقاربة درامية عالية النبرة. كما لم يفته أن يجسد نماذج من ضحايا السياسة الأميركية وهزيمتها في الحرب الفيتنامية في مسرحية «إنها أميركا» المعدّة عن نص للكاتب الألماني بيتر فايس، ومسرحية «أميركا قارة الرعب والموت والجوع»، وكأن خوفه كان مشروعاً من أن أميركا ستحتل يوماً ما وطنه. تفرد قاسم محمد في تعامله مع الممثل، الذي يعدّه العنصر الفعّال والديناميكي في المسرح، وسعى في كل تجاربه الإخراجية إلى تحريك طاقته التخييلية، وتحفيز ذهنه، وتجريده من الكليشيهات (إزالة التزويقات والأدران العالقة به) على طريقة النحات العالمي رودان، الذي يقول: «أنا أزيل كل ما هو زائد من الصخرة ليظهر الموضوع للمشاهد من دون لبس». لتحقيق هذا الهدف، كان يميل إلى الممثلين المجتهدين والهواة المسكونين بالمسرح، لأنهم الأكثر صبراً وتقبلاً للأفكار الجديدة، والأقل مشاغل ومشاكل، وحماستهم للعمل تفوق حماسة المحترفين. كل العناصر التي يتشكل منها العرض المسرحي كانت تتساوى عند قاسم محمد في الأهمية، فللموسيقى مكانة الملابس نفسها، وأهمية اللون توازي أهمية الحركة، ولمكونات السينوغرافيا النابعة من الرؤية الإخراجية القيمة التعبيرية والدلالية نفسها التي يحملها النص واشتغال الممثل على دوره. وفي المحصلة النهائية تتلاحم جميع هذه العناصر في وحدة فنية عضوية. أخيراً، وبعد نصف قرن من العمل الدؤوب، مخرجاً وممثلاً ودراماتورجاً ومعلماً فذاً، وجد الراحل الكبير قاسم محمد أن المسرح، رغم روحه التفجيرية، يعني له صوراً ورؤىً وأحلاماً ومقاومة للتلاشي.
سيرة إبداعية - وُلد في بغداد العام 1934، وأكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة العام 1962. - انتمى إلى فرقة المسرح الفني الحديث وهو ما زال طالباً. - نال شهادة الدبلوم في الفنون المسرحية من معهد الدولة في موسكو العام 1968، وعند عودته إلى العراق عمل مدرّساً للتمثيل والإخراج في معهد الفنون الجميلة، ثم أصبح من الأعضاء الأساسيين في فرقته. - عمل مخرجاً أولَ في الفرقة القومية للتمثيل، واختير عضواً في اللجنة العليا لمهرجان المسرح العربي، وظل يمارس نشاطه المسرحي في العراق إلى أن سافر العام 1997 إلى الإمارات العربية المتحدة، بدعوة من فرقة مسرح الشارقة الوطني للعمل معها، ولم يعد إلى بغداد حتى رحيله بسبب «ضيق فسحة الأمل، وضيق فسحة الحرية» بحسب تعبيره. وقد افتقد العراق حضوره الإبداعي المؤثر منذ ذلك الحين. - كتب وأخرج العديد من مسرحيات الطفل، ويُعد المؤسس الحقيقي لهذا اللون من المسرح في العراق. - حاز داخل العراق على جائزة أفضل إخراج عن مسرحية «الشريعة» ليوسف العاني العام 1972، وجائزة أفضل عرض عن مسرحية «أنا ضمير المتكلم» العام 1973، وجائزة أفضل نص وإخراج عن مسرحيتَي «بغداد الأزل بين الجد والهزل» العام 1974، و«حكاية الأرض والعطش والناس» العام 1982. - نال عرضه المسرحي»الباب»، تأليف يوسف الصائغ، جائزة أفضل نص وأفضل إخراج في مهرجان قرطاج المسرحي بتونس العام 1987، وتوّجته الدائرة الثقافية في إمارة عجمان في 31 كانون الثاني/ يناير 2008 بلقب أبرز شخصية ثقافية للعام 2008 ، تقديرا لإنجازاته ورحلته مع المسرحين العربي والعراقي. وقبل رحيله بأسبوعين منحته قناة «الشرقية» الفضائية قلادة بغداد الذهبية. |
|
|||||||||||||