العدد 73 - أعلام | ||||||||||||||
عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.
فيصل دراج يتمتّع أحمد فارس الشدياق (1805 - 1887) بمنزلة خاصة بين النهضويين العرب، لأكثر من سبب: انفتح على المجتَمع الأوروبي وعاينه بمنظور نقدي فاصلاً بين وجوهه السلبية والإيجابية، وعارض التعصب الديني بتصور إنساني متسامح، وجمع بين التجديد اللغوي والقضايا الاجتماعية والسياسية، وآمن بفاعلية العقل، ودعا إلى تعليم المرأة وتحرّرها.. ومع أنه وضع كتباً كثيرة، ليس آخرها: «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، فإن خلاصة أفكاره قائمةٌ في كتابه الشهير: «الساق على الساق»، الذي نشره في باريس العام 1855، وعدّه بعض النقاد مبتدءاً للرواية العربية. استهل الشدياق كتابه الشهير بنقد لتحالف الإقطاع والمؤسسة الدينية، الذي يدفع الناس إلى الجهل، مطالباً بتعليم يخلق معلماً وتلميذاً جديدين: «والظاهر أن سادتنا رؤساء الدين والدنيا لا يريدون لرعيتهم أن يتفقهوا. بل يحاولون ما أمكن أن يغادروهم متسكعين في الجهل والغباوة. إذ لو شاءوا غير ذلك لاجتهدوا في أن ينشئوا لهم هناك مطبعة تُطبع فيها الكتب العربية المفيدة سواء كانت عربية أو معرّبة،...». دعا الشدياق، حال النهضويين جميعاً، إلى تعليم عصري، يجمع بين الحساب والتاريخ والجغرافيا، بعيداً عن تعليم مغلق قوامه لغة عربية ركيكة. أدرك أن تجديد الفكر من تجديد اللغة، وأن تجديد هذين العنصرين يفضي إلى تصور ديني قريب من الحياة. يقول موجهاً كلامه إلى أنصار الجهل والغباوة: «أتحسبون أن الركاكة من شعائر الدين ومعالمه وفرائضه وعزائمه، وأن البلاغة تفضي بكم إلى الكفر والإلحاد. أمَا بعروقكم دمٌ يهيجكم إلى حب الكلام الجزل الفخم....». توجّه هذا الثائر، الذي أراد أن يكون مسلماً ومسيحياً معاً، بكلامه إلى مراجع تحسب الجمود تديّناً، وتستبد بـ«العبيد الأذلّة»، الذين يساوون بين رجل الدين والتعاليم المقدسة. دفع الاستبداد، الذي قتل أخ الشدياق من غير حق، صاحب «الساق على الساق» إلى التذكير بالتسامح الديني الأصلي: «إن المسيح ورسله لم يأمروا بسجن من يخالف كلامهم،...، ناهيك أن المسيح ورسله أقرّوا ذوي السيادة على سيادتهم وأمرتهم. ولم يكن دأبهم إلا الحضّ على مكارم الأخلاق والأمر بالبر والدعة والسلم والأناة والحلم». مايز هذا الثائر بين الدين الأصلي، الذي قصد إلى سعادة الإنسان، والمؤسسة الدينية، التي جمعت بين التسلّط والتزوير، وبين التسلّط ومصالحها الخاصة. لا غرابة أن يرى في الإصلاح الديني تتويجاً لإصلاح اجتماعي متعدد الوجوه، يتضمن التعليم والقراءة والانفتاح على «الآخر»، ويتضمن، بداهة، التحرّر من السلطة الإقطاعية. أقام الشدياق تصوره النقدي على مفهوم «الإنسان»، الذي يقبل التعلّم ويتطلع إليه، ويرغب بالاعتراف به وبحقوقه، ذلك أن الاعتراف بإنسانية الإنسان شرط للاعتراف بحقوقه: التعليمية والثقافية والاقتصادية. لعل هذا المنظور، هو الذي دعا الشدياق إلى الاحتفاء بالمرأة احتفاء غير مسبوق في «الساق على الساق»، لا نظير له في الثقافة العربية الحديثة. ومع أن الكتاب تحدث عن المرأة في مزاياها المختلفة، التي تحتمل الضعف والقوة والخفة والرزانة، وعن طباعها ولباسها وجسدها ونعوتها المتنوعة، التي تحتمل العطف والعاطفة والحب والاستنكار، فهو في النهاية يقرّر أمرين: الاعتراف بها إنساناً واسع الحضور يُكمل الرجل ويُستكمل به ويتكاملان معاً في تجديد المجتمع وتأمين ديمومته، وتأكيدها إنساناً - مجازاً يحقق الحب والخير والجمال و«تهذيب الرجل». فهذا الأخير خُلِق من تراب، بينما جاءت المرأة من «ضلع الرجل»، إعلاناً عن تفوقها عليه. قدّم الشدياق، بهذين الأمرين، مساهمة فكرية وكتابية نوعية، ذلك أن الكتب الأدبية العربية اختصرت المرأة، غالباً، إلى مواضع العشق والجسد والإماء والجواري، بينما أراد الشدياق «امرأة أخرى» هي جزء جميل من الحياة، والحياة الجميلة مرآة لها. ولهذا يعتذر المؤلف من المرأة حين «يورد كلاماً لا يليق بالنساء»، فهو لم يقصد الإساءة بل «إبراز محاسن لغتنا الشريفة». عبّر الكاتب عن احترامه للمرأة في أكثر من مكان، كأن يقول: «ألا ترى أن المرأة إذا كانت تفعل كل ما يريد زوجها أن تفعله كانت كالآلة بين يديه، فلا يكترث بها لاعتقاده أنها موقوفة على حركة يده...»، أو: «إن الرجل لم يُخلق إلا لأجل المرأة، كما أن المرأة لم تُخلق إلا للرجل». لكن اعترافه الكامل بالمرأة يظهر جلياً في شخصيتيّ الكتاب الأساسيتين: «الفارياق» و«الفارياقية»، أو الزوج وزوجته، فهما يتبادلان الاعتراف والحوار والاختلاف والكلام الساخر، بشكل مساوٍ، كما لو كان الشدياق يقول بتساوي المرأة والرجل ويبرهن عنه، موحداً بين النظري والحكائي، وبين النظر والعمل. ولهذا تتعلّم المرأة من «رحلة الاكتشاف» بقدر ما يتعلّمه الرجل، وتبرهن أنها مساوية له في الفهم والإدراك والنقد، بل إنها تتفوق عليه ايضاً، فهي تقول: «إن الرجال دأبهم أن يدّعوا أن المرأة لم تُخلق إلا لإرضاء زوجها، وإن اللغة إنما وضعوها استبداداً منهم بالنساء كما هو دأبهم في غير ذلك. وبَعْدْ فقد تركنا لكم اللغة تتصرفون بها كيفما شئتم، فلم لا تتركون لنا خواطرنا وأفكارنا: إنه لا مزية للرجل على المرأة في شيء». دافعَ هذا التصور قبل أكثر من قرن ونصف القرن عن حق المرأة في المعرفة، وبرهن أن المعرفة الحوارية ترتقي بالرجل والمرأة معاً. ما هي المراجع النظرية والعملية التي أنتجت مثقفاً نهضوياً يبشّر بفكر سابق لزمانه؟ جاء العنصر الأول من عنف «النظام الكنسي»، الذي أجبر الشدياق على التمييز بين حقيقة الدين والناطقين باسمه، وأتى العنصر الثاني من تعددية لغوية - ثقافية، فقد كان النهضوي «الشامي» منفتحاً على أكثر من ثقافة ويعرّف أكثر من لغة، وصدر الثالث عن رحلة واسعة، طوّفت بالشدياق بين لبنان ومصر ومالطا وبريطانيا وفرنسا، أتاحت له أن يتعرّف على عادات وثقافات مختلفة. بيد أن العناصر كلها لم تصبح مثمرة إلا بفضل عقل طليق، يرى ويحلّل ويقارن بين المقدمات والنتائج. قاد العقل الطليق إلى مبدأ المقارنة، الذي يؤكد نسبية المعارف والحقائق، بقدر ما يقرّر أن المعارف المفتوحة تصحّح المعارف المغلقة، أو تكشف عن زيفها. لهذا قال الشدياق: «أما المدينة فإن القادم إليها من بلاد الشرق، يستحسنها ويستعظمها. والقادم إليها من بلاد الإفرنج يحتقرها ويستصغرها». والواضح أن المدينة -مالطة ربما- أكثر تقدماً من الشرق وأقل تقدماً من الغرب، وأن تقويم أحوال الشرق، التي ترضي «العبيد الأذلة»، لا يستقيم إلا بتقويم أحوال مغايرة، ذلك أن المغلق على ذاته لا يؤرقه شيء. ولهذا تبدو باريس أقل نظاماً وجمالاً، كما يقول، من لندن، وتبدو الأخيرة في نظر «الشرقي» ساحرة عظيمة: «ما أبهج ملاهيها وملاعبها، وما أرحب كنائسها وما أحفل مجالسها، وما أعمر مساكنها...». يتحدث المسافر عن «مدينة عامرة»، درس أحوال سكانها، مشيراً إلى «مدينة أخرى» ضيقة في كل شيء. اشتق الشدياق طبائع الإنجليز من هندسة مدينتهم، واشتق الهندسة من ثقافة مأخوذة بالتنظيم واحترام الوقت. دفعه حسه النقدي إلى السخرية من موقف الترك من العرب: «إذ اتفق من نوادر الدهر أن تركياً وعربياً تماشيا أخذ العربي بالسنّة المفروضة. وهي أن يمشي عن يسار التركي محتشماً خاشعاً متصاغراً متضائلاً،...». قد يكون في كلام الشدياق ما هو قريب من الموقف القومي، فهو يدافع حاسماً عن عروبة الإسلام وفضائل الخلفاء الراشدين، لكن فيه أولاً ما يرفض التمييز بين البشر. لم يكن موقفه، في شكليه، ممكناً من دون تجربته الأوروبية، وهو الذي عاش في لندن وكامبريدج وأكسفورد العام 1848، ثم ذهب إلى باريس فأقام سنوات عدّة، وضع خلالها كتابه الشهير ونشره في العاصمة الفرنسية. تعرّف في إقامته الأوروبية على أفكار سياسية وفلسفية وأدبية حداثية، وعرف أن هوية القومية من لغتها، وأن تجدّد القومية لا ينفصل عن تجديد لغتها. أحمد فارس الشدياق نهضوي متعدد الوجوه: فهو أشهر صحفي في عصره ورائد الصحافة العربية، عمل في صحيفة «الوقائع المصرية»، التي أنشأها محمد علي العام 1828، وأصدر في الأستانة صحيفة «الجوائب» العام 1861، الصحيفة الأكثر انتشاراً في ذاك الزمان. مارس في عمله الصحفي إصلاح اللغة العربية، وأعلن في عمله الأدبي عن نهاية المقامة وولادة الرواية، ودافع عن «فضائل النساء»، ودعا إلى مجتمع يتأسس على العلم، لأن الدين وحده لا يكفي، وترجم من الإنجليزية والفرنسية إلى العربية، ووضع «أدق ترجمة عربية لـ«الكتاب المقدس» (التوراة) العام 1857. جاء في فصل عنوانه : «في فضل النساء» من كتاب «الساق على الساق»: «لولا المرأة لم يكن الولد، بل لولا المرأة لم يكن شيء في الدنيا لا دين ولا غيره.» وجاء في فصل آخر: «إن البنت إذا اشتغلت بقراءة فن من الفنون أو بمطالعة الكتب المفيدة صرفها ذلك عن استنباط الحيل. فأما إذا لم يكن لهنّ شغل غير ملازمة البيت وليس فيه غير الخادمة فإن أفكارهنّ وأهواءهن تتجمع كلها في مركز واحد وهو اتخاذ الخادمة وسيلة لهنّ وسنداً..». تطلع الشدياق إلى ثقافة حديثة تحرّر الرجل والمرأة معاً. |
|
|||||||||||||