العدد 10 - أردني
 

السّجل - خاص: حمامٌ أبيض يحاول الانطلاقَ مرفرفاً بأجنحته صوب السماء، غير أن نوافذ البيت العتيق المغلقة تمنعه من تحقيق ذلك.. بهذا المشهد الاستفزازي يفتتح السوري محمد ملص فيلمه “أحلام المدينة” الذي عُرض مؤخراً في مؤسسة خالد شومان-دارة الفنون، ضمن فعاليات مهرجان “عدسة على سورية: ثلاثون عاماً من السينما السورية المعاصرة” الذي يقام بالتعاون مع “آرت إيست”. وهو مشهد يعبّر عن ثيمة العمل الذي يعرض المناخَ الذي ساد دمشق مطلع الخمسينيات، من استبدادٍ وطغيان وكبت ومصادرة حريات.


يحكي الفيلم قصة مستمدة من واقع الحياة الشعبية في أحد أحياء دمشق القديمة. ويتخذ مسارين: توثيقي تاريخي، وحكائي درامي. في الأول يستعيد المخرج فترة النهوض الوطني بعد انتهاء حكم أديب الشيشكلي، والمصالحة الوطنية التي قادت إلى نشوء الجبهة الوطنية وإجراء الانتخابات التي أسفرت بدورها عن إعادة شكري القوتلي لسدّة الحكم.


أما المسار الحكائي، فيتناول حكاية المرأة الشابة “ياسمين خلاط” التي يتوفى زوجها تاركاً لها طفلَين تعيش معهما في منزل والدها حادّ الطباع، يعمل الابن الأكبر “ديب” أجيراً في محل كيّ ملابس، بينما يلتحق الأصغر “عمر” بمدرسة داخلية.


يؤشر الفيلم إلى شقاء الوعي عند الإنسان العربي عموماًَ، من خلال نموذج “ديب” الذي يوضع في جملة من المواقف والعلاقات المتشابكة التي يتعاطى معها في البداية بعفوية، إلى أن يدرك أن الإنسان الذي يتعرض للعنف عليه أن يرد الصاع صاعين، وذلك عندما يضربه جده بوحشية مفرطة، وبعد أن يشاهد صاحبَ الدكان يضرب الأستاذَ ويتركه مضرجاً بدمائه، ثم عندما يتصارع الشقيقان في الحارة على اقتسام الدكان التي ورثاها عن أبيهما أمامه، فيقوم أحدهما بطعن الآخر بالمقص حتى يلفظ آخر أنفاسه..


حياة “ديب” هي صورة كابوسية للخيبة الفردية-الجمعية التي تتجلى واضحةً في البيت والعمل والمدرسة، وفي تفاصيل الحياة الاجتماعية (كزواج الأم)، ما يدفع “ديب” إلى الانتقام من كلّ ما يعتقد أنه يشوّه عالمه، وبدمويةٍ تبدو ردَّ فعلٍ متوقَّعاً، ويبدأ بملاحقة زوجِ أمه مقرراً قتله بالمقص، لكنه يفشل، إذ يتوارى زوج الأم خلف البوابة الخشبية التي لا يتمكن “ديب” من اقتحامها فيضربها برأسه مراراً حتى يتفجر الدم منه، في مشهدٍ من أكثر مشاهد الفيلم بلاغةً وتأثيراً.


ويُختَتم الفيلم بمشاهد الأفراح التي يتخلّلها الأهازيج والزغاريد التي تعم الشوارع إثر إعلان الوحدة ووصول عبد الناصر إلى دمشق. إذ ذاك يقول “أبو النور”، الرجل المبدئي والوطني، مخاطباً “ديب”، في مشهدٍ يبدو مصاغاً بحرفية عالية ليستقر في الوجدان بالغاً الحدّ الأقصى من التأثير: “بعمرك شفت القمر هيك يا ديب.. الله بذاته مع الوحدة”.


لا يقوم “أحلام المدينة” على قصة درامية تقليدية، وإنما يكتسب وهجه المتجدد رغم مرور ربع قرن على إنتاجه (1983) من التشويق المتأتي من سلسلة الأحداث والحالات النفسية والسيكولوجية المتنوعة التي يلظمها خيطٌ واحد يقود إلى الخيبة بمستوياتها المتعددة. وأحسنَ ملص إذ انشغل بتفاصيل الوجه الإنساني وانفعالاته بحسٍّ مبدعٍ يعيد بناء الأحداث الحقيقية -حيث يقارب الفيلم سيرته الذاتية- وفق رؤية سينمائية محبوكة.


نال الفيلم إحدى عشرة جائزة، منها جائزة «تانت» الذهبية في مهرجان قرطاج السينمائي (1984)، وجائزة «الزيتونة الذهبية» في مهرجان فلنسيا للسينما في إسبانيا (1984).

عروض السينما السورية.. كوابيس الخيبة العربية
 
17-Jan-2008
 
العدد 10