العدد 73 - دولي
 

صلاح حزين

لم تكن قد مضت سوى أيام على تصريحات أدلى بها الرئيس الأميركي باراك أوباما حول ارتكاب الولايات المتحدة أخطاء في التعامل مع معتقلي سجن غوانتانامو، حتى كان يتوجه إلى مقر المخابرات المركزية الأميركية (سي آي أيه) في لانجلي بولاية فرجينيا القريبة من العاصمة واشنطن، لكي يهديء من روع موظفيها، وكذلك من روع رئيسها في عهد الرئيس السابق جورج بوش الإبن، مايكل هايدن، والذين رأوا أنهم هم المعنيون بارتكاب الأخطاء التي أشار إليها الرئيس الجديد.

في زيارته تلك، طمأن أوباما المسؤولين في دائرة المخابرات المركزية إلى أنهم لن يلاحقوا قضائيا، وتعهد حمايتهم، ولكنه صرح فيما بعد بأن المسؤولين في الإدارة الأميركية السابقة، الذين وافقوا على ممارسات عنيفة مثل تكنيك الإيهام بالغرق وغيره من الممارسات أثناء التحقيق مع متهمين بالانتماء لتنظيم القاعدة، قد يقدمون للمحاكمة.

وإن كانت تصريحات أوباما في مقر السي آي آيه قد طمأنت الموظفين هناك على مستقبلهم فإن سياسيين متنفذين في الإدارة السابقة سرعان ما بدأوا يتحسسون رؤوسهم، ومن بينهم ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، الذي سارع إلى الرد على أوباما في مقابلة أجرتها معه شبكة فوكس نيوز اليمينية المعروفة. وفيما بدا ردا على أوباما الذي قال إن التعذيب “يعكس صورة فقد أميركا لوازعها الأخلاقي”، قال تشيني إن الممارسات التي دانها أوباما بوصفها تعذيبا قد أثبتت نجاعتها. ودعا إلى رفع السرية عن مزيد من المذكرات التي تطلب من محققي السي آي أيه ممارسة تكنيك الإيهام بالغرق وغيره من الممارسات العنيفة، والتي أصر فيها على أنها كانت تكنيكات ناجحة، مشيرا إلى أن رفع السرية عن هذه المذكرات يؤكد ذلك النجاح.

اعتراف أوباما بارتكاب أخطاء، الذي جاء بعد إلغائه تكنيك الإيهام بالإغراق، الذي كان يتبع أثناء التحقيق مع المتهمين في السجن سيء السمعة، تبعه رفع السرية عن أربع مذكرات سابقة تأمر بممارسة التكنيك المشار إليه ونشرها، ما جعل الأمر يبدو جديا بالنسبة لكل من شارك في ممارسة التكنيك الذي أثار كثيرا من الجدل لدى استخدامه في عهد الرئيس السابق جورج بوش، والذي دعمه الرئيس السابق وكذلك نائبه ديك تشيني واعتبراه أمرا يجري في إطار التحقيق، وليس وسيلة للتعذيب.

ويتضمن تكنيك الإيهام بالإغراق جلب المتهم ووضع فوطة مغرقة بالماء فوق رأسه مع تكبيل يديه، ثم يبدأ المحقق في صب الماء على وجه المتهم المغطى بقطعة من القماش، في إيحاء له بأنه يتعرض للغرق.

واعتبرت منظمات تعمل في مجال حقوق الإنسان هذا التكنيك تعذيبا، وأي اعتراف ينشأ عنه اعترافا انتزع تحت التعذيب.

وفي محاولة لتبرير رفع السرية عن التقارير الأربعة قال أوباما إنه فعل ذلك بسبب الظروف الاستثنائية المحيطة بالمذكرات، بخاصة وأن كثيرا من المعلومات التي وردت فيها كانت معروفة.

وفي محاولة لحماية محققي الوكالة الذين قد يكونون متورطين في ممارسة التعذيب، ظهرت المذكرات الأربعة المنشورة مظللة في بعض مواقعها، حيث يعتقد أن معلومات “حساسة” قد تكون ذكرت فيها، غير أن إحدى المدونات ذكرت أن واحدة من المذكرات الأربع المنشورة لم تكن مظللة، وأنها أظهرت حقائق مروعة، من بينها أن خالد بن شيخ محمد، الباكستاني الجنسية، والمتهم الرئيسي في تفجيرات برجي مركز التجارة العالمي، قد تعرض للتعذيب بأسلوب الإيهام بالإغراق 183 مرة، وأن أبو زبيدة، وهم متهم سعودي ينفي أي صلة له بالقاعدة، تعرض للتعذيب بالأسلوب نفسه 83 مرة.

وكانت السي آي أيه قبضت على بن شيخ محمد في باكستان العام 2003، فيما قبض على أبو زبيدة في باكستان أيضا العام 2002.

وكان بن شيخ قد اعترف بتخطيطه لتنفيذ تفجيرات مركز التجارة العالمي عام 1993، وهجمات أخرى على مطار هيثرو في لندن وبرج وستمنستر حيث ساعة بغ بن الشهيرة، وقطع رأس الصحفي الأميركي دانيال بيرل.

نائب الرئيس السابق ديك تشيني الذي قد يكون أرفع مسؤول أميركي يخضع للتحقيق في ما تعتبره إدارة الرئيس باراك أوباما جرائم تعذيب، بدا وكأنه يقود تيارا قويا ضد الرئيس أوباما، تيار يخشى من تطور الأمور إلى تجريم عدد من الممارسات التي لجأت إليها إدارة جورج بوش السابقة بما فيها قضية السجون السرية في دول من العالم الثالث، حيث أرسلت الولايات المتحدة الأميركية بعض المعتقلين في سجن غوانتانامو إليها لإخضاعهم للتحقيق فيها لأن التعذيب ممنوع في أثناء إجراء التحقيق في سجون الولايات المتحدة، فيما لا تتقيد الدول التي يرسل المعتقلون إلى سجونها، ومنها دول عربية، بأي قوانين تحرم انتزاع الاعتراف تحت التعذيب.

التيار الذي يقوده تشيني يتضمن رئيس السي آي أيه السابق مايكل هايدن الذي انتقد خطوة أوباما في رفع السرية عن المذكرات الأربع وحذر من أن عملاء السي آي أيه قد يصبحون معرضين لرفع قضايا ضدهم، أو إخضاعهم إلى لجان تحقيق من الكونغرس، وربما كان هذا تحديدا ما جعل الرئيس الأميركي يسارع إلى مقر وكالة المخابرات الأميركية لطمأنة الموظفين والعملاء العاملين لصالحها. ولم يتردد أوباما في كيل المديح للوكالة بقوله إنها، أي الوكالة، “هي رأس الحربة في حماية الولايات المتحدة من أعدائها”، لكن هذا لم يمنعه من القول في أثناء مؤتمر صحفي عقده مع الملك عبد الله الثاني، الذي يزور واشنطن، إن الأمر متروك للنائب العام، مشيرا إلى أنه لا يريد أن يصدر أحكاما مسبقة. كما ترك أوباما الباب مفتوحا أمام تشكيل لجان من الكونغرس للتحقيق في هذه الممارسات.

ومن المثير للاهتمام أن سجن غوانتانامو كان بندا على جدول أعمال أوباما حين كان يخوض حملته الانتخابية، فهو أعلن منذ البداية أنه سوف يغلق السجن الواقع على أرض قاعدة أميركية فوق الأراضي الكوبية في العام الأول لتوليه الحكم، ولكنه يواجه صعوبة في تحقيق ما وعد به لأن عددا من الدول الأوروبية وغير الأوروبية ترفض استقبال المعتقلين فيه، وهو ما جعله يؤجل عملية إغلاق السجن الذي ربما أصبح الأسوأ سمعة في العالم.

وقد أثار السجن والمعتقلون الذين يقبع بعضهم فيه منذ غزو أفغانستان العام 2001، مشاكل عديدة لإدارة الرئيس السابق جورج بوش، التي خالفت العديد من قوانين حقوق الإنسان حين واصلت اعتقالهم دون توجيه تهم لهم طوال هذه السنين، فضلا عن إخضاعهم إلى ممارسات ترقى إلى التعذيب مثل الإيهام بالإغراق، التي لقيت انتقادات عديدة من منظمات حقوق الإنسان ودول أخرى، ما جعلها، أي إدارة الرئيس بوش ترسل المعتقلين إلى سجون في الخارج، وبعضها في قواعد عسكرية أميركية على أراض بريطانية لانتزاع اعترافات منهم.

لكن إدارة بوش لم تتراجع أمام هذه الانتقادات، ما زاد من قتامة صورة الولايات المتحدة في العالم، وهي صورة يحاول الرئيس أوباما تغييرها في ظل مقاومة بدت واضحة من خلال تصريحات عدد من أقطاب اليمين الأميركي.

في ظل مقاومة يمينية ضارية أوباما يخوض معركة لمحو “أخطاء” الماضي
 
23-Apr-2009
 
العدد 73