العدد 72 - ثقافي
 

لطفية الدليمي

في مقهى لو فوليز (أو مقهى المجانين) التي تحتل الرصيف الأيمن لشارع بلفيل قرب محطة المترو، كنا نلتقي أحيانا مع أصدقاء وصديقات عرب وفرنسيين.

الندل جزائريون قبليون، يميزهم ظرف فاتن وبعض سخرية لاذعة، يحتفون بي وبصديقتي العراقية الفرنسية، ويقدمون لنا طلباتنا محفوفة بترحاب حضاري له سمة متفرنسة تُميز حيَّ بلفيل المختلط الذي تتجمع فيه غيتوهات مغاربية وصينية وعربية وتركية وإفريقية سوداء، ويشكل برجَ بابل عصريا من الأجناس واللغات والملامح والأزياء المختلفة.. وفي المقهى كانت تلوح لنا ظلال ممتعة من السنوات المجنونة بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من حراك ثقافي رافض، وبيانات، وأزمات اقتصادية تعود الآن بصيغ أشدّ وطأة على الحياة البشرية.

أُنصت في مقهى لو فوليز إلى إديث بياف وهي تغني: «اقرعوا الأجراس في المدن، اقرعوا الأجراس في الحقول، وأطلقوا الصرخات، فهل ستعيده الأجراس، والنحيب إلى ذراعيّ؟

هل ينبغي أن يذهب كل رجل إلى الحرب؟ ودائما وأبداً تقف امرأة وحيدة، خاوية القلب واليدين. عندما يحين الفراق ويمنحني قبلة الوداع، سأطلق صرخة وحيدة من أعماق قلبي: رحماك أيتها السماء، لا مزيد من الدموع، لا مزيد من التضرعات، لا مزيد من المخاوف، رحماك أيتها السماء.. أتى حفّارو القبور ونقشوا اسمه على شاهدة الرخام (...) لاشيء لدى المحبّين سوى حلم جديد لكل يوم: بيت صغير وحديقة وطفل له عينا حبيبي وأنفي، فلتخرس الأجراس، لا مزيد من الدموع .. رحماك يارب السماوات..».

أغنية تبوح بحلم إنساني بسيط لا يكلف الدول إلا عُشرَ ما تكلفه الحروب التي تلتهم الأحلام والرجال، فلا يتبقى ما يسوغ الحياة للنساء الوحيدات..

هكذا كانت إديث بياف تغني بصوت قلبها الكسير ونبرتها الحافية في الشوارع والمقاهي للنساء والرجال الذين اكتووا بنيران الحروب: «رحماك أيتها السماء»، جائعة ومشردة تنتقل من مقهى إلى مقهى لتغني الحب والحياة والأمل وتردد: «كل شيء يمكن أن يتهاوى، الأرض والجبال والشجر والمدن، الحب وحده يلبث في الأعالي».

كان أول ما رأيت من إديث بياف، قبرها في مقبرة «بير لاشيز»، ترقد بين العظماء في أضرحتهم الرخامية محفوفين برقرقة النوافير وشذا الأزاهير وشدو الطيور، كان هناك أوسكار وايلد ولافونتين وبلزاك ومارسيل بروست وإيف مونتان وجان كوكتو وغيرهم من بناة الثقافة الإنسانية.

في مقهى لو فوليز، يلتقي عادةً رسامون وشعراء ومفكرون معاصرون، ومعظمهم هامشيون هاربون من المظاهر المترفة لمقاهي وسط باريس في السان جيرمان والسان ميشيل والشانزليزيه، ويرجّح أن التسمية آلت إليه من سنوات العشرينيات، سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، التي عُرفت بالترف والجنون واللهو والبيانات الفنية والشعرية الغاضبة، وتغيرت فيها أوضاع المجتمعات الغربية.

انعكس ذلك على أدوار المرأة، إذ اقتحمت النساء ميادين العمل، وتحررن من قيود أزياء القرن التاسع عشر وكثير من الأغلال الاجتماعية الخانقة. وفي تلك السنوات، كان المثقفون يقودون أمزجة المجتمعات، تاركين بصماتهم على تفاصيل الحياة كلها.

يطلق أندريه بروتون بيانه السوريالي في نهاية الحقبة المجنونة، وتنهار مفاهيم، وتتبدل قيم، وما زال الرسامون والبوهيميون والشعراء يلتقون في مقهى لو فوليز، أراهم منهمكين بالكتابة، أو تخطيط السكتشات، أو تدوين الموسيقى. ويذكر المسنّون المغنية الأسطورة إديث بياف التي كانت تصدح بأغانيها الحزينة فيه، وتذكّرنا بعبورها الساطع هنا لوحتان إعلانيتان تزينان واجهة المقهى تحملان صورها مع مشاهير أمثال: صديقها الشاعر جان كوكتو، وموريس شيفاليه، وعلى مبعدة خمسمئة متر صعودا في شارع بلفيل المرتفع، نجد لافتة صغيرة مثبتة على جدار مبنى عتيق مقابل بقالة القاهرة لصاحبها الحاج عادل المصري: هنا وُلدت إديث بياف في 1915.

في هذا الشارع العالمي، يشكل الصينيون أغلبية مهيمنة، فلهم مطاعمهم وأسواقهم وموسيقاهم ونواديهم ومصارفهم، يليهم الأفارقة وعرب شمال إفريقيا والسوريون والمصريون، والكل يعرف أين ولدت العصفورة الحزينة بياف، ويعرف أين كانت تغني. وقد تمر أمام مقهى عتيقة أخرى، فتسمع أغنية باريس التي غنّتها خلال تحرير باريس من الاحتلال النازي، أو ترى ملصقات من سنوات الستينيات لأيقونات عالمية مثل غيفارا، والمغني جيم موريس يتوسطهما وجه بياف ونظرتها التائهة تطلّ على العالم من علياء حزنها الذهبي.

مقهى لو فوليز والسنوات المجنونة
 
16-Apr-2009
 
العدد 72