العدد 72 - ثقافي | ||||||||||||||
محمود شقير تكثر هذه الأيام، في ضوء احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية للعام 2009، الاجتهادات التي تتمحور حول أفضل السبل لتأكيد طابع القدس العربي الإسلامي المسيحي، ولحمايتها من هجمة التهويد التي لا تجري على قدم وساق، بل على جرافات وحفريات وحصار واستيطان وأنفاق!. وحيث إن الثقافة في هذه المناسبة، هي العنوان الذي يجري من خلاله التعبير عن علاقة الفلسطينيين والعرب بالمدينة المقدسة، فإن الاجتهادات كلها تقريباً تتخذ من الثقافة، الأساس الذي تنطلق منه وتعود إليه، لتشكل في المحصلة النهائية فرصة عملية، للرد على الادعاءات الإسرائيلية بأن القدس، بقسميها الغربي والشرقي، هي عاصمة إسرائيل إلى الأبد! هذه الادعاءات تنطلق من وهم مؤدّاه: أن القدس مدينة يهودية في الماضي والحاضر، وتنكر باستهانة مفرطة، أن تكون القدس مدينة عربية فلسطينية!. في ضوء هذا التزوير المعلن، وما يترتب عليه من وقائع مادية، بدءاً من منع أي نشاط ثقافي في القدس خاص بالاحتفالية، وانتهاء بالإجراءات التي تكرس الاحتلال، فإن الاجتهادات المنوه عنها أعلاه، تسعى إلى فضح الموقف الإسرائيلي، وإلى تأكيد حضور الثقافة العربية الفلسطينية في المدينة، رغم القمع والمنع والإقصاء. فثمة اجتهاد يدعو المثقفين العرب، ومعهم مثقفون معروفون من بلدان العالم المختلفة، إلى زيارة الأرض المحتلة والتوجه إلى القدس للقاء أهلها ومثقفيها الفلسطينيين، للتعبير عن رفضهم للاحتلال الجاثم على صدر المدينة، ولتأكيد طابعها العربي الممتد عميقاً في الجغرافيا والتاريخ. وإنْ رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي السماح لهم، باجتياز الحواجز المحيطة بالقدس، وهذا هو الاحتمال الأرجح، فإن بوسعهم التظاهر أمام أحد هذه الحواجز، لإلحاق فضيحة بسلطات الاحتلال وبما تمارسه من قهر وعسف، وهذا فعل نضالي له من وجهة نظر المحبذين للزيارة، أهميته التي قد تتفوق في حساب المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، على مسألة تجنب الدخول في حالة تطبيع مع سلطات الاحتلال. وهذه قضية ما زالت قيد النقاش، وهي تستحق التوقف عندها بروية، للتوصل إلى قناعات مشتركة ما أمكن، وتجنباً لأي صراعات جانبية في صفوف المثقفين العرب والفلسطينيين!. إلى ذلك، تتعدد الاجتهادات التي يعبّر عنها مثقفون وسياسيون. فمنها ما له علاقة بالجانب التاريخي الديني، الذي يسلط الضوء على المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة، ويزدهي بتاريخها العريق، وبالتنوع العمراني فيها، الذي يدلل على أنها مدينة تعددية مبنية على التسامح وتعايش الأديان وتفاعل الثقافات. ومنها ما له علاقة بالتراث الشعبي الذي لا يقتصر على القدس وحدها، بل يمكن تتبع حضوره في بقية المدن والقرى الفلسطينية، غير أن ما في القدس وقراها من تراث شعبي، يمكنه أن يغني مجمل التراث الشعبي الفلسطيني، بتفاصيل خاصة. يمكن هنا التذكير بالأزياء الشعبية والمطرزات، وبالعادات والتقاليد في مناسبات الفرح والحزن، وكذلك بأنواع الأطعمة وبكل ما له علاقة بالحياة اليومية للناس. ومنها ما ينصبّ على الجانب الثقافي بجوانبه المختلفة، بما يشمل العمارة والتراث الشعبي وغيرهما، انطلاقاً من وحي الاحتفالية، حيث لا بد من القيام بأكبر قدر ممكن من الأنشطة في القدس، تشتمل على معارض للفن التشكيلي وللتراث الشعبي، وعلى عروض للمسرح والسينما والفنون الشعبية، إضافة إلى قراءات شعرية وقصصية، وندوات فكرية وتاريخية وأخرى حول العمارة والآثار، مما له علاقة بالقدس بطبيعة الحال. فإذا لم تتيسر إقامة هذه الأنشطة في القدس نفسها، بسبب منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي لها، وهذا هو الاحتمال الأرجح، فلا بد من إقامتها في محيط القدس وعند الحواجز، أو في مدن فلسطينية وعربية قريبة وبعيدة. ما لفت انتباهي في هذا الصدد، دخول بعض المصطلحات العسكرية ساحة الجدل الخاص بالاحتفالية، حيث اقترح رئيس ديوان الرئاسة، مسؤول اللجنة الوطنية العليا للاحتفالية، رفيق الحسيني، القيام بحرب عصابات ثقافية في القدس، ما أعاد إلى الأذهان بعض مفاهيم هذه الحرب، من طراز: اضرب واهرب، ومن طراز: الالتفاف على العدو ومهاجمته على حين غرّة. هذا نابع بالطبع، من العقبات التي يضعها المحتلون الإسرائيليون أمام حضور الثقافة الفلسطينية والعربية في المدينة، وإمعاناً منهم بعدم التسليم بأية علاقة للسلطة الوطنية الفلسطينية بالقدس!. يبدو أن حرب العصابات الثقافية هذه، تحيلنا إلى النشاط المشهدي الذي يجري تنفيذه أمام جمهور محدد مدعو علناً أو سراً للمجيء إلى مكان محدد. وهو بلا شك نشاط له أهميته المتمثلة في كسر حاجز المنع الإسرائيلي، وفي فرض الإرادة الفلسطينية في نوع من الفعل الثقافي المقاوم، غير أن ما هو سلبي في الأمر، كون هذا النشاط ذا طابع مؤقت، قد لا يترك إلا أثراً محدوداً في وعي جمهور محدود! وقد تلتفت إليه أجهزة الإعلام لحظة ثم ينتهي كل شيء، في حين يبقى الخطر الذي يهدد القدس ماثلاً أمام العيون والأفئدة. ولربما كان الأكثر جدوى من ذلك أو بالتوافق معه، التخطيط لحرب مواقع ثقافية! (ها نحن ننتقل من جياب وغيفارا إلى غرامشي!) نؤمن بالدور المؤكد الذي تؤديه الثقافة الوطنية الديمقراطية في بناء الفرد وتحصينه من الداخل، ليصبح قادراً على التصدي للهجمة الصهيونية، التي قطعت شوطاً بعيداً في خلق البؤر الاستيطانية داخل القدس وفي بناء المستوطنات حولها، وفي هدم البيوت وسحب بطاقات هويات المواطنين، وعزل عشرات الآلاف منهم خلف جدار الفصل. وهي، أي الهجمة الصهيونية، تسعى في الوقت نفسه، إلى طمس الهوية الوطنية للمقدسيين الذين أتيحت لهم فرصة البقاء في المدينة حتى الآن، والعمل بأساليب الترغيب والترهيب المختلفة، على تحويلهم إلى أناس مغتربين عن المدينة، لا قدرة لهم على الصمود فيها، ما قد يدفعهم إلى الهجرة منها، في ظل أزمة سكن خانقة وظروف اقتصادية وسياسية معقدة. هنا، تستطيع الثقافة أن تؤدي دورها دون مشهدية استعراضية أو بمزيج من الأمرين، وذلك بتعزيز دور المؤسسات الثقافية المقدسية، بوصفها المواقع التي يتعين عليها أن تواصل إنتاج الثقافة في المدينة، وبالعناية بالمثقفين والفنانين الفلسطينيين في القدس، وفي بقية أنحاء الوطن وفي الشتات، وإسناد جهودهم لتقديم نتاجات أدبية وفنية مكرسة للقدس، وبوضع برامج وتصورات لهذا العام ولما يليه من أعوام، من شأنها تعميم الثقافة الوطنية الديمقراطية في صفوف المواطنين المقدسيين، وبخاصة جيل الشباب والشابات، لكي تتمكن القدس من مواصلة الدفاع عن عروبتها، ويتمكن مواطنوها، المسيحيون والمسلمون، من مواصلة صمودهم في مدينتهم، مدينة الآباء والأجداد، مدينة الحداثة والتعددية والتسامح والديموقراطية والسلام. |
|
|||||||||||||