العدد 72 - ثقافي | ||||||||||||||
السجل - خاص صدر حديثاً في فلسطين المحتلة - رام الله - كتاب من ستمئة صفحة عنوانه «المنهاج الفلسطيني - إشكالات الهوية والمواطنة»، شارك فيه أربعون باحثاً، وأشرف عليه، باقتدار واضح، عبد الرحيم الشيخ، ومع أن عدد صفحات الكتاب، كما طبيعة الموضوع المطروح، تغوي بتأجيل القراءة، فإنّ جديّة الكتاب وطموحه الكبير يأمران بغير ذلك، لسببين على الأقل: فهو عمل علمي سجالي، يقرأ المنهاج الفلسطيني التربوي، ويكشف عن وجوهه الإيجابية والسلبية، وهو كتاب يحضّ على السّجال، لأنه يحذف المسافة بين القائم والمرغوب. يثير الكتاب (مؤسسة مواطن، رام الله، 2008)، الذي يتمحور حول المدرسة والمجتمع، جملة قضايا نظرية، يخص أولها معنى المنهاج المدرسي، ذلك أن وجود المدرسة، من حيث هي جهاز من أجهزة الدولة التربوية والأيديولوجية، لا يستقيم إلاّ بوجود دولة مستقلة، تأخذ بسياسات مختلفة، السياسة التعليمية وجه من وجوهها. وهذه الدولة الفلسطينية المفترضة، لا وجود لها، ولا وجود للسياسات المختلفة المتكاملة التي تعبّر، فعلياً، عنها، بل إن بعض مواد المنهاج القائم المقرر، ومادة التاريخ بخاصة، تبرهن، كما يرى الباحثون، أن «الدولة» لا تعرف عن مصائرها الشيء الكثير، لا في الجغرافيا ولا التاريخ، ولا المنظور التربوي. ولهذا يمتلك الفلسطينيون نشيداً وعَلَماً وألقاباً، ولا يستطيعون امتلاك «منهاج مدرسي»، لأن الأخير تعبير عن الاستقلال والحدود الواضحة، وعن إيمان بأن المستقبل المنشود مشتق من حاضر لا التباس فيه. إذا وضعنا مفهوم الدولة، الذي يحدّد أجهزة الدولة وسياساتها المستقلة، جانباً، ووضعنا مكانه تعبير: «السلطة»، وهو مختلف عن مفهوم «الدولة»، اصطدمنا من جديد بجملة من الأسئلة الشائكة، لأن السلطة الفلسطينية القائمة اليوم سلطة مشروطة أو سلطة - احتمال، لأكثر من سبب: فهي ملزمة باتفاقية دولية - اتفاقية أوسلو - التي تطالب بـ«تربية سلامية»، تقبل بدولة إسرائيل وبتاريخها، وتنسى، لزوماً، أشياء كثيرة من تاريخ فلسطين الحديث والوقائع الوطنية والإنسانية الفلسطينية. وهذه الاتفاقية تُخضع المنهاج التربوي الفلسطيني إلى جملة من الرقابات: الرقابة السلطوية التي عليها أن ترضي إسرائيل ولا تستفزها، الأمر الذي يجعل من الرقابة الإسرائيلية عنصراً داخلياً فاعلاً في كتابة المقرر التربوي الفلسطيني. وبعد هاتين الرقابتين تأتي رقابة «الدول المانحة»، التي يتيح لها «استثمارها المالي»، أن تراقب السلطة ومنهاجها المدرسي، تتلو ذلك رقابة «راعي السلام الأكبر»، أي الولايات المتحدة، التي لا تقتصد كثيراً في استعمال «تعبير الإرهاب». ينتج عن المقدمات السابقة السؤال التالي: ما مدى الانسجام، والموضوعية، والوضوح في منهاج تعليمي فلسطيني، تصوغه السلطة وإسرائيل والدول المانحة والولايات المتحدة؟ إذا وضعنا كل هذا جانباً، ولا يمكن وضعه جانباً على أية حال، حضرَ مباشرةً، سؤالان: هل ترضى الذاكرة الشعبية الفلسطينية أن تنسى كل ما كان قبل العام 1948 وبعده؟ وماذا يفعل الفلسطينيون بأدبهم الوطني الطويل، والمندّد بجرائم إسرائيل، الذي صاغه أبو سلمى، وكنفاني، وجبرا، ومحمود درويش، وغيرهم الكثير؟. أما السؤال الثاني، وهو لا يقل صعوبة وتعقيداً، فهو: ما علاقة المنهاج «الفلسطيني» السلطوي، الذي يمحو ويلغي ويجزئ ويتناسى، ملايين الفلسطينيين في الشتات، وهل على من هو في الخارج، وعلى من هو في الداخل أيضاً، أن يرضى بمنهاجين، أحدهما سري يرى فلسطين كما يريد أن يراها، وثانيهما «سلامي»، يرى وطنه القديم، كما تراه «الدول المانحة»؟. قد تكون الإجابة قائمة في «معنى السلام»، لكنها قائمة أولاً في ذلك السلام العجيب، الذي يحوّل فلسطين كلها إلى معتقل كبير. سؤال لاحق: هل المنهاج الفلسطيني المقترح، كما القائم، خاص بالضفة وحولها، أم إنه خاص بالضفة والقطاع معاً؟ وكيف يخص الطرفين إذا كانت غزّة تبدو اليوم حكومة مستقلة بذاتها؟ أكثر من ذلك: إذا كان المنهاج المدرسي تعبيراً عن شعب له إرادة وطنية موحّدة، فهل يتمتع الفلسطينيون اليوم بتلك الإرادة؟. يدور المنهاج حول نفسه منطلقاً إلى السماء، طارحاً على نفسه وعلى غيره السؤال التالي: هل على المنهاج المنشود أن يوحّد الشعب الذي يتوجّه إليه، أم إن على الشعب الموحّد أن يقترح المنهاج الذي يريد؟ يصبح الأمر أكثر تعقيداً حين نقرأ في مستهل الكتاب: نحو مدرسة وطنية تنويرية. ولكن من يقوم بالتنوير؟، ألا يحتاج المنهاج المنشود إلى سلطة تنويرية متسقة، متحررة من التلفيق الذي يجمع بين التنوير ونقيضه؟. «المنهاج الفلسطيني - إشكالات الهوية والمواطنة» كتاب وطني حالم تذكّر مقدمته اللامعة، التي كتبها عبد الرحيم الشيخ، بشيء من أفكار طه حسين، ا لذي أكد وحدة المدرسة والديمقراطية. كتاب يرى الهوية الفلسطينية كما يجب أن تكون، ديمقراطية عقلانية، مدافعة عن حقوقها الوطنية والإنسانية. ولهذا أخذ الكتاب، بشكل مضمر، بأفكار من المربي الفلسطيني القديم خليل السكاكيني الذي قال: «إن أهون المعارك هي معركة السلاح، لأن أصعب المعارك بناء العقول». اشتق الكتاب طموحه من المدرسة والمعلم طارحاً من جديد سؤالين حزينين: كيف تولد المدرسة الحديثة من معطيات مدرسة قديمة؟ وإذا كان على المعلم الفاضل أن يعلّم تلاميذه مبادئ الفضيلة، فمن الذي يستولد هذا المعلم ويعلّمه؟. |
|
|||||||||||||