العدد 72 - ثقافي | ||||||||||||||
عواد علي سَحرَ المسرح الشرقي التقليدي، العديد من المسرحيين في الغرب، بتقنياته وجمالياته وطقوسه، وأثار اهتمامهم منذ بداية القرن العشرين، مشكّلاً مصدر إلهام لتنظيراتهم وتجديد تجاربهم على مستوى شكل العرض والإخراج. يكشف تطلّع هؤلاء المسرحيين إلى هذا المسرح، عن ولعهم الدؤوب بنماذج بديلة لسيادة الممارسة المسرحية الغربية. وتُعدّ الزيارة التي قامت بها فرقة جزيرة بالي الآسيوية إلى أوروبا العام 1931 فاتحة اكتشاف المسرحيين الغربيين لبنية هذا المسرح وخصوصيته. وهو ما زال يشكّل مرجعاً لفناني المسرح وللمنظّرين، بخاصة في ما يتعلّق بنوعية الروامز (الشيفرات) التي تتحكم بالعرض، وبإعداد الممثل وأدائه. ن استخدام الطقس في المسرح الشرقي له تأثير هائل على المسرح التجريبي في الغرب، ورغم بروز العروض الطقسية وتطورها خارج المحضن الثقافي الأوروبي، فإنها تجتذب، بشكل واضح، جمهور المسرح الغربي. يقول الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت، في مقالة له عنوانها «كيف تقضي أسبوعاً في باريس؟»: «لقد فُتنتُ أيما افتتان بمسرح بونراكو للعرائس؛ إن الشعوب الأخرى، بوصفها الآخر المغاير، تستثير اهتمامي، ذلك لأن هذه العرائس تنتمي إلى سياق آخر، ومكان آخر. ولهذا السبب وحده فإنها تثير فضولي، وتغذّيه». إذا ما عددنا بارت نموذجاً متقدماً للمتلقي الغربي، يمكن الاستنتاج أن ما يثير اهتمام هذا المتلقي بالمسرح الشرقي هو «غيريته» بالنسبة له، واختلافه عما ألفه، وأيضاً عدم القدرة على فهمه في إطار عمليات التلقي التقليدي، حيث أنه يعتمد على الكلمة بوصفها الوسيط الوحيد الذي يتحدد من خلاله معنى العرض. من أبرز المسرحيين الغربيين الذين سحرهم المسرح الشرقي: الروسي فسيفولد مايرهولد، والفرنسي أنطونان آرتو، والسويسري لوينيه بو، والألماني برتولد بريشت، والبولوني جيرزي غروتوفسكي، والإنجليزي بيتر بروك، والأميركي ريتشارد ششنر، وأيوجينيو باربا. وقد جاء اهتمام الأخير بهذا المسرح ضمن توجهه في البحث المسرحي الذي عُرف بـ»أنثروبولوجيا المسرح»، كما دوّنه في كتابه «مسيرة المعاكسين»، وغير ذلك من الكتابات. يعرّف باربا أنثروبولوجيا المسرح بأنها «دراسة التصرفات البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حالة العرض المسرحي، أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم بالحياة اليومية»، وذلك لأن الممثل يستخدم جسده في الحياة اليومية المعتادة بنوع من التقنية المشروطة بثقافته ووضعه الاجتماعي وطبيعة مهنته، في حين يستخدمه في العرض المسرحي بطريقة أخرى، وتقنية مختلفة كلياً. يسمي باربا النوع الثاني من الاستخدام: «التقنية الخارجة عن المعتاد»، ويرى أن المسافة التي تفصل بين التقنيتين في الغرب غالباً ما تكون غير واضحة وغير مدرَكة، في حين أن هناك اختلافا واضحا بينهما في الهند، مُقَرَّاً به وله اصطلاحاته: «لوكادهارمي» و»تاتيادهامي». يكمن الاختلاف في أن التقنية اليومية تتبع عادةً مبدأ بذل الجهد الضئيل، أي بمعنى الحصول على النتيجة القصوى بتوظيف أدنى حدّ من الطاقة. لكن العكس يحدث في التقنية الخارجة عن المعتاد، فهي تعتمد على البذخ في الطاقة؛ ولذلك يعبّر المتلقون في المسرح الياباني عن شكرهم للممثلين في نهاية العرض بعبارة «أنت متعب»، إشارةً إلى أن الممثل الذي أثار اهتمامهم وأمتعهم وترك تأثيره فيهم متعب لأنه لم يوفر شيئاً من طاقته، بل فاض في استخدامها. يستدرك باربا، فيميز بين حيوية الممثل، وحيوية البهلوان. الأول يستخدم التقنية الخارجة عن المعتاد بهدف منح المعلومات، ووضع الجسد في شكل مطلوب، أما الثاني فإنه يستخدم مهارةً فائقةً تصبو إلى إثارة الانبهار وتحويل الجسد. من هنا جاء تركيز باربا على نظرية حضور الممثل، التي تتوقف عند مبادئ أساسية مستقاة من أسلوب إعداد الممثل في المسرح الشرقي القائم على خرق توازن الجسد، وتبديل مراكز القوى فيه، وتحقيق ديناميكية التعاكس، أو اجتماع الأضداد بين ما يريد أن يبدو عليه الممثل، وبين ما هو عليه فعلياً عند أدائه للدور. بهذا يكون حضور الممثل حالة تعبير سابقة لأداء الدور، تتأتى من استحضار طاقة كامنة يتوصل إليها من خلال التدريب المتواصل. بتأثير من المسرح الشرقي، الياباني بخاصة، لا يفرق باربا بين الممثل والراقص، بل يشير إلى أن التمييز بينهما يبدو للفنان الشرقي نوعاً من العبث، في حين أن التمييز القاسي ما بين المسرح والرقص علامة من علامات الثقافة الغربية، يكشف عن جرح عميق، وفراغ في تراثه يجازف بجذب الممثل دائماً صوب خرس الجسد، ويدفع الراقص إلى الولع بالمهارة والبراعة الفائقة. رغم ارتباط أنثروبولوجيا المسرح بأيوجينيو باربا، فإن ثمة من يذهب إلى أن هذه الظاهرة نشأت وتطورت، جنباً إلى جنب مع الأنثروبولوجيا بوصفها علماً، في أوروبا وأميركا، نتيجةً لأزمة ثقافية وأخلاقية لا يمكن فصلها عن التطور الحضاري وظهور الاستعمار؛ فقد دفعت هذه الأزمة باتجاه البحث عما هو أصيل ونقي وبدائي، إما في أصول الحضارة الغربية في بداية تشكلها، أو في الحضارات الأخرى. وانطلاقاً من هواجس اكتشاف الآخر، والعودة إلى الأصول، والأصالة، والمثاقفة، قدّمت تساؤلات حول ثوابت الجماليات الغربية، وتشكلت نواة للانفتاح الثقافي بين الشعوب، ومحاولات لتغذية المسارح المختلفة بتجارب الآخرين. |
|
|||||||||||||