العدد 72 - أعلام | ||||||||||||||
عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.
فيصل دراج
ينتسب قاسم أمين (1863 - 1908) إلى النخبة العربية المستنيرة، التي جاءت بمفردات جديدة مثل: الحرية، ورفض الاستبداد، والترقي، والتمدن، وإصلاح العقل والتربية.. بيد أن ما ميّزه وأشهره دعوته الصريحة الواضحة إلى انعتاق المرأة، الذي قال به في كتابه «تحرير المرأة» (1899) الذي أثار سجالاً غير مسبوق، وجلب لصاحبه مشاكل متعددة، اختلط فيها النقد المسؤول بالشتيمة والتشهير. لعل الضجة التي أثارها الكتاب، الذي فهمه العقلاء ورحّبوا به، وندّدت به العقول المغلقة، هي التي دعت أمين إلى وضع كتابه «المرأة الجديدة» (1900)، الذي ردّ فيه على النقد والاتهام، وأعاد شرح أفكاره بوضوح أكبر وجرأة أشدّ. ما كان لكتابه إلا أن يثير ما أثاره من اللغط والاتهام، في مجتمع متخلّف يرى المرأة «عورة»، ومخلوقاً ناقص العقل والدين، ستره الأصغر في الزواج، وستره الأكبر في «الموت». مثل كثير من المستنيرين في زمنه، حظي قاسم أمين بقسط وافر من التعليم في مدارس مصر، فحصل على «ليسانس» في الحقوق العام 1881، واقترب من تلاميذ جمال الدين الأفغاني، وأنهى دراسته العليا في فرنسا، وأصبح مقرّباً من الشيخ محمد عبده، واهتمّ بالقضايا السياسية والوطنية التي عرّفته على سعد زغلول الذي أصبح لاحقاً «ضمير الأمة المصرية». وإذا كانت دراسته في فرنسا أتاحت له، بعد عودته، مناصب متعددة في القضاء المصري، فقد فتحت له أيضاً آفاقاً معرفية جديدة، فقرأ أشياء من ماركس وداروين ونيتشه، إضافة إلى مفكرين فرنسيين. مكّنته ثقافته الجديدة، كما اختلاطه بالمجتمع الفرنسي لمدة أربع سنوات، أن يقارن بين مجتمعه المصري والمجتمع الفرنسي، وأن يحلم بمجتمع تُشارك في أقداره «امرأة جديدة». مع أن حلم «رائد تحرير المرأة» أيقظ لدى بعضهم نعوتَ «التقليد» و«التبعية» و«الخروج عن الموروث والعادات»، فقد انطلق أمين من مبدأ بسيط نزيه، يقرّه الدين ويدعو إليه، عنوانه: تساوي البشر في الطبيعة وحظوط العقل، وفي وجوه الضعف والقوة، والفرق بينهم قائم في تنظيم الإرادة والمجتمع واستعمال العقل. يقول أمين: «إن النوع الإنساني، في كل مكان، هو نفسه، بأخطائه ومواطن ضعفه، وأيضاً بعظمته وزهوّه... والحركة المستمرة إلى جهة الترقّي هي قانون الحياة الإنسانية. ولن يقف ماضينا ولا حاضرنا حائلاً بيننا وبين التقدم حسب هذا القانون الذي يسود الكون كله». طرح أمين سؤالاً مشروعاً: إذا كان الإنسان الأوروبي، الذي يساوي غيره من البشر، أنتج مجتمعاً متقدماً، فما الذي يمنع العربي المسلم أن يجاريه في تقدمه؟ عثر على الجواب في ظواهر اجتماعية تمكن معالجتها مثل: التربية، والجهل، والاستبداد. فقد رأى أن التعليم «هو في الحقيقة أقل فروع التربية شأناً وفائدة»، ذلك أن المطلوب «تنمية الملكات الطيبة»، وممارسة «التعليم النظري»، لا استظهاره، والاعتراف بأن «التربية لا يمكن أن تُكتسب في المدارس والمكاتب والقراءة والحفظ، بل تجب ممارستها». وعلى هذا، فإن الإنسان من تربيته، وأن تربية عاقلة متحررة تعطي إنساناً عاقلاً حراً، وأن هندسة الإنسان الحر العاقل تفضي إلى الرقيّ والكمال. والواضح في خطاب قاسم أمين أمران: التطور كقانون، يأتي إلى الإنسان ويذهب الإنسان إليه، والحرية كضرورة ينصرها التقدم وتنصره. يقول معلناً عن تأثره بالأفكار الداروينية: «إن التغيّر والتحوّل، بل الحركة المستمرة إلى جهة الترقّي، هي قانون الحياة الإنسانية، التي خلقها الله ووهبها أعظم وسائل الارتقاء». عطف المثقف الثائر «قانونَ التطور» على إيمانه الإسلامي، وربط الترقّي الإنساني الذي باركه الله، بفكرة الحرية، ذلك أن التطور تحرُّر من ظواهر سلبية ماضية، وقبول بجديد لم يكن مألوفاً: «وقد بدأت الشعوب حياتها بالحرية وستنتهي إلى الحرية. غير أنها في ما بين هاتين الفترتين مقضيٌّ عليها أن تعاني محنة الاستبداد، الذي يبدو أنه ضروري لاختبارها، ما أسعد الدول التي يُكتب لها، بعد هذه المحنة، البقاء!».. جمع أمين في قوله أبعاداً فكرية ثلاثة: بُعد أول جاءه من الفرنسي جان جاك روسو الذي قال بـ«حرية طبيعية»، يتمتع بها الإنسان قبل اغترابه في «التنظيم الاجتماعي»، وبُعد دارويني واضح يربط بين قابلية الشعوب للبقاء وقدرتها على مصارعة الاستبداد وهزيمته، وبُعد ثالث لا ينقصه التشاؤم، ينظر، بشقاء، إلى شعوب قد تصرعها محنة الاسبتداد. رغم أن التفاؤل قد لازم كل خطاب تطوّري، ومن نبرة أمين القائلة بحتمية التطور، فإن شيئاً من اليأس يتسرّب إلى كلامه: «الاستبداد أصل كل فساد في الأخلاق.. والحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي، ونشر كل مذهب، وترويج كل فكر.. فكم من الزمن يمر علينا قبل أن نبلغ هذه الدرجة من الحرية؟». هذا القول يشجب الاستبداد، ويكشف عن فضائل الحرية، ويفصح عن يأس مضمر، والواضح أن «علينا» أن ننتظر طويلاً ما بلغته الشعوب المتمدّنة منذ زمن طويل. نظر هذا الثائر إلى المستقبل، وهجس بعبء الماضي الثقيل، الذي يجعل من المستقبل احتمالاً، ومن الماضي حقيقة كاسحة. وصل قاسم أمين إلى موضوع «تحرّر المرأة» عن أكثر من طريق: معاينته المباشرة للمرأة الفرنسية المتحررة، التي إنْ تمتّعت بتربية راقية، أدّت دوراً أساسياً في ارتقاء المجتمع كله، وإيمانه الشديد بقيمة الإنسان وبحقه في حياة حرة كريمة، رجلاً كان أو امرأة، واعتناقه فكرة التطور، التي تقضي بارتقاء الأفراد والمجتمعات والشعوب. قال بدعوته مرتكناً إلى مبدأ المقارنة، فما يحق لامرأة في مجتمع معين يحق لغيرها في مجتمع آخر؛ وإلى فاعلية التربية الرشيدة، ذلك «أن التربية هي رأسمال لا يفنى»، كما كان يقول. عالجت دعوته قضايا ثلاث: الحجاب الذي لا سند له دينياً، ولا يشكل في ذاته برهاناً على الصلاح وسلامة الأخلاق: «ليس في الشريعة نص يوجب الحجاب. وإنما هي عادة أخذناها عن بعض الأمم.. وأن نساء العرب والقرى المصرية، مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا، أقلّ ميلاً للفساد من ساكنات المدن المحجبات.. إن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة من المرأة المحجوبة..». أذاب أمين سؤال الحجاب، وكما فعل قبله رفاعة الطهطاوي بخمسة وستين عاماً، في موضوع التربية التي لا تُختصر إلى المدرسة والعادات المسيطرة. القضية الثانية هي قضية تقييد الطلاق، إذ لا يحق للرجل أن يعبث بأقدار المرأة كما يشاء، مثلما أن موضوع المساكنة والتعايش بين الأزواج لا يمكن أن يكون شأناً من شؤون القضاء. يقول أمين: «إنني لا أفهم أن يقيم الإنسان دعوى لتحصيل الطلاق، فتلاقي الأرواح لا يمكن أن يكون مادة للتقاضي»، ويقول أيضاً: «إن وضع الطلاق تحت سلطة القاضي أدعى إلى تضييق دائرته، وأدنى إلى المحافظة على نظام الزواج....!». والواضح في هذا احترام حرية الإنسان ورغباته، رجلاً كان أو امرأة، والانتباه إلى التربية الرشيدة الراقية، التي هي أكثر معقولية وفاعلية من سلطة القاضي وأحكامه، فما لا يقبله العقل والقلب لا تفيد فيه سلطة القضاء بشيء كثير. تطرح القضية الثالثة: «نظام تعدد الزوجات»، والدعوة إلى ضبطه وتقييده، لأن في التعدد، الذي لا سبب ولا ضوابط له، ما ينتهك إنسانية المرأة ويستخفّ بكرامتها، وما يضع الرجل فوق المرأة، وما يُرضي مجتمعاً ذكورياً متخلّفاً وينتهك تعاليم الإسلام العادلة. ساءل قاسم أمين القضايا الثلاث، هاجساً بمجتمع حديث يحرّر المرأة والرجل معاً، مطالباً بما يرفع الغبن عن المرأة ويعترف بها «مواطناً»، لها من الحقوق ما للرجل من حقوق، ولها دورها الذي لا يستقيم المجتع السويّ من دونه. يقول أمين وهو يندّد بما يستبدّ بالمرأة والرجل معاً: «في الشرق نجد المرأة في رقّ الرجل، والرجل في رقّ الحكومة.. وحيثما تتمتع النساء بحريتهن الشخصية يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطاً كلياً». المطلوب، إذن، حرية تساوي بين الطرفين، ومساواة ترتقي بهما معاً، فارتقاء الرجل يرفع المرأة من مستوى «الحيوان اللطيف» إلى مستوى الإنسان الجدير بالحقوق والواجبات: «إن افتقار المرأة المسلمة إلى الاستقلال بكسب ضروريات حياتها هو السبب الذي جرّ ضياع حقوقها، فلقد استأثر الرجل بكل حق، ونظر إليها نظرته إلى حيوان لطيف، يكفيه لوازمه كي يتسلى به!». لمح أمين، مبكراً، معنى الاستقلال الاقتصادي للمرأة الذي يدفعها إلى عمل تطوّر به شخصيتها، ويسمح لها أن تتساوى بالرجل، عوضاً عن أن تكون «خادماً» يتنازل عن حريته مقابل الإعاشة وتكاليف الحياة. مع أن أصحاب الآراء الجاهزة قادرون، في الأمس كما اليوم، على أن يلصقوا بقاسم أمين صفات الهرطقة والمروق، فما دعا إليه المصلحُ المصري، الذي وُلد لأب تركي عثماني وأم مصرية من الصعيد، لم يخالف روح الإسلام في شيء. فما قال به أقرّه الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، بل إن بعض الدارسين يرى أن الفصول، التي عُرضت لرأي الشرع في قضايا الحجاب والزواج والطلاق وتعدد الزوجات، قد كتبها الشيخ الجليل. والأمر لا غرابة فيه، ما دام أن التنويريَّين الكبيرَين كانا مشغولَين بسعادة البشر وكرامة الأوطان، بعيداً عن عقول راكدة مستقيلة مشغولة بسلطة النصوص، وَعَتْها بقدر، أو أَفتت كما تشاء مكتفيةً بقراءة مجزوءة. أكثر من ذلك أن هذه العقول، التي تختصر الدين إلى «بلاغة الأدعية»، لا تهجس برسالة فاعلة للإسلام، ولا تطلب من المسلم أن يكون فاعلاً في الحضارة الإنسانية، ولا تقرّ التطوّر وتبحث عن التغيير. يقول أمين: «إن اللذة التي تجعل للحياة قيمة، ليست حيازة الذهب، ولا شرف النسب، ولا علو المنصب، ولا شيئاً من الأشياء التي يجري وراءها الناس عادة.. وإنما هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم». أربعة أمور رآها أمين منذ نهاية القرن الماضي: أن المستقبل للعلم، وأن الإنسان العاقل ينظر إلى المستقبل ولا يكتفي بالماضي، وأن تقدم المجتمع ينهض على التقدم الاقتصادي الذي يحدّد علاقات المجتمع جميعاً، وأن التمدن الأوروبي يطأ بقدمه جميع أنحاء المسكونة ويستولي على منابع الثروة فيها بقوة العقل أو بالعنف. جعل أمين من تحرّر المرأة مجازاً لتحرر المجتمع، لأن مجتمعاً يضطهد المرأة والمدافعين عن حقوقها، هو مجتمع يكره الحياة، ويمحو الطرق الذاهبة إلى المستقبل. |
|
|||||||||||||