العدد 72 - اقليمي
 

سعد حتر

رام الله – «ما بدّي أنتخب لا حماس ولا فتح. بطل عندي أمل في الفصائل من لمّا تكاتلوا الطرفين في غزّة وسفينة الوطن بتغرق»، هذا لسان حال حلقة شبان وشابات في إحدى مقاهي رام الله «المودرن». فغالبية الشباب منغمسون في العمل والترقي بعيداً عن السياسة. تقول خولة: «زهكنا مبادرات السلام وحروب. بدنا نعيش».

واحد من كل ثلاثة ضفّاويين فقط يعتزم المشاركة في انتخابات مقبلة، بحسب أحد استطلاعات الرأي. فخيبة الأمل تخيّم على هذه المدينة التي أضحت عاصمة إدارية «كأمر واقع» مذ وقع الشرخ الدموي بين فتح السلطوية وحماس الإسلامية في قطاع غزة منتصف 2007.

اليوم، حجم التذمر في أوجه حيال كل من الفصيلين، فهما «وجهان لعملة واحدة. يتشبثان بالكرسي على حساب الوطن»، حسبما يشتكي فتحي (28 عاماً).

يتدخل عامر (35 عاماً) ليعلن بغضب: «لم أعد أثق بأي منهما، فالاقتتال على الكراسي خيّب أملنا وحطّم تطلعاتنا صوب بناء الوطن» بعد 60 عاماً من النضال.

تضامن داخلي مفقود وسلام بعيد

عبلة، التي قدمت للعمل في رام الله من الشتات منتصف العقد الماضي، تؤكد من جانبها أن تكرار الاجتياحات الإسرائيلية والحصار المستمر منذ اندلاع الانتفاضة الثانية العام 2000، أطاح بما تبقى من ثقة في الجانب الإسرائيلي.

نتنياهو، ليفني أم باراك.. كلهم سيّان بالنسبة لفلسطينيي رام الله وسائر الضفة الغربية، حسبما ترى عبلة (48 عاماً)، وهي أم لثلاثة أولاد.

تستبعد عبلة التوصل إلى سلام مع إسرائيل، ذلك أن هذه «الدولة تريد الأرض والسلام معا». وتستذكر بحسرة: «عندما اندلعت الانتفاضة كان لدينا أمل. أما اليوم فنعيش للمجهول».

لكنها تستدرك بأن انتخاب نتنياهو لرئاسة الحكومة قد يكون أفضل للفلسطينيين من ناحيتين: «لأنه يعلن معارضته لإقامة دولة فلسطينية بخلاف مواقف معارضيه الذين يتحدثون عن السلام من جهة ويقتلون الفلسطينيين من جهة أخرى. كما أن تعنّت حكومة يمينية برئاسة زعيم حزب الليكود قد توقظ الإدارة الأميركية والأوروبيين من سباتهم، وتكشف لهم أن إسرائيل تشكّل عقبة أمام السلام».

يشاركها في الرأي خالد (40 عاماً)، يرى أن نتنياهو «أقل ضررا لأنه يعلن عن نواياه بخلاف زعماء العمل وكديما. وهو الذي أبرم اتفاق الخليل في تسعينيات القرن الماضي». لكن عبلة وخالد يتوافقان في أن «القيادات الإسرائيلية سواء، حتى لو رفعوا أغصان الزيتون».

جندي إسرائيلي في عقده الثاني مدجج بالسلاح على حاجز عسكري خارج المدينة، يرى أن السياسيين «يتحدثون لغة مزدوجة. فهم يقولون إنهم يريدون سلاماً، لكنهم يرفضون تقديم تنازلات». فـ«دائرة القتل والقتل المضاد ستبقى مغلقة دون أفق سياسي» يضيف الجندي بإنجليزية ركيكة.

منذ اندلاع الانتفاضة الثانية صيف 2000، يطوّق الجيش الإسرائيلي مدن الضفة الغربية وقراها ضمن حصار تخلّلته اجتياحات متكررة.

بين السياسة والحياة اقتصاد

في انتظار استرجاع القدس الشرقية «عاصمة» للفلسطينيين، تضخمت رام الله إلى مدينة «ميتروبوليتان» إذ باتت تحتضن هياكل السلطة ومؤسساتها، فضلاً عن الهيئات الدبلوماسية، النخب الثقافية والمنظمات غير الحكومية.

مقابل الجمود السياسي، ثمّة تمدد عمراني وحياة ثقافية مزدهرة من المسرح والسينما إلى مدارس «عشاق الرقص» بدءاً بـ«الخصر العربي» وانتهاء بالسالسا، حسبما يلحظ المحلل السياسي محمد يونس. تستفيد هذه الأجواء من استقرار أمني نسبي، تبسطه السلطة منذ تسلّم التكنوقراطي سلام فياض رئاسة الوزراء قبل عامين.

مع ذلك ازدادت شعبية حماس في الضفة بعد الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزّة قبل أربعة أشهر. المفارقة أن التعاطف مع الحركة الإسلامية تراجع في غزّة مهد حماس. يرجع هاشم (60 عاماً) هذا التناقض إلى «ضعف السلطة وتفاقم مشاكل فتح الداخلية».

في الذاكرة ضغط نفسي وانكفاء مجتمعي، تزامنا مع فوز حماس الكاسح في الانتخابات التشريعية مطلع 2006. ظلت تلك الغيوم في الأجواء حتى منتصف 2007، حين وقع الشقاق بين أكبر فصيلين وبالتالي تعمق الفرز الجغرافي: الحركة الإسلامية في غزة، والسلطة في الضفة، بحسب ما تستذكر فاتن وزوجها مصطفى في وقت متأخر داخل أحد مطاعم رام الله الحديثة.

«تؤشر فاتن إلى المطعم المليء بالزبائن، وتقول: تردد العائلات على مواسم الثقافة وارتياد المطاعم، لا سيما ليلاً، كانا صعبين خلال فترة حكومة حماس أو حكومة الوحدة الوطنية برئاسة إسماعيل هنية، التي سعت إلى فرض (كود) إسلامي على طبقات المجتمع».

عديد الأجهزة الأمنية يقدر بـ 90 ألفاً، أي أكثر من نصف موظفي السلطة المقدّر عددهم بـ 163 ألف شخص. غالبية العناصر الجديدة تلقت تدريباتها في الأردن، بحسب أحد حرّاس سجن رام الله، مقابل تجمع المحاكم الجديد التابع للمجلس القضائي.

ينتشر في رام الله الآن 500 مطعم متخصص بمطابخ متنوعة، لا سيما «المازات» اللبنانية، بحسب إحصائيات رسمية. ودخلت أيضاً ثقافة «المولات» إذ بنيت ثلاثة أخيراً، في سوق تتوسع باستمرار نتيجة تضاعف عدد سكان المدينة من 30 إلى 80 ألفاً، ضمن محافظة مترامية يقطنها في الإجمال 400 ألف نسمة.

يدخل المدينة، التي تمددت باتجاه البيرة وبيتونيا، 200 ألف سيارة يومياً من مناطق الضفة الغربية المختلفة، بحسب إحصاءات رسمية.

فرز طبقي

رام الله كانت بلدة وادعة قليلة السكان قبل 1996، بسبب هجرة سكانها إلى الأميركيتين. اليوم استقطبت نزوحاً من سائر مناطق الضفة الغربية أملتها الانتفاضة الثانية، وهجرة داخلية وفرّتها فرص السلام.

ينقسم سكان رام الله إلى طبقة صغيرة مترفة من «محدثي النعمة»، لا سيما كبار الموظفين، مقابل شريحة واسعة من محدودي الدخل.

يصل راتب رجل التشريع إلى 4000 دولار شهرياً، فيما يتقاضى الوزير أكثر من 3000 دولار، مقابل أقل من 1000 دولار للموظف.

البنايات السكنية متعددة الطبقات باتت تظلّل الفلل والدارات العتيقة، فوق ما كان يطلق عليها «مدينة التلال» نسبة إلى تضاريسها الشبيهة بجبال عمان.

فمن بلدة وديعة هادئة غالبية بيوتها العتيقة مهجورة، تضخمت رام الله إلى مدينة «ميتروبوليتية» عقب تدفق عشرات الدبلوماسيين وموظفي منظمات المجتمع المدني المحلية والغربية.

وساهمت الانتفاضة في نزوح آلاف السكان من مناطق الشمال كنابلس وجنين، بعد أن فقدت موارد رزقها نتيجة إغلاق نقاط عبور الخط الأخضر مع إسرائيل. قبل الانتفاضة، كانت تلك المدن مزدهرة بفعل التجارة والتواصل مع عرب 1948.

تراجع الحرف التقليدية في نابلس

إضافة إلى خسارة «الزبائن» من إسرائيل، تعاني نابلس عاصمة الشمال، من مخاوف اندثار حرف يدوية ارتبط اسمها بهذه المدينة القابعة وسط سلسلة جبال عملاقة.

مصانع الصابون الشهيرة انخفضت من 75 إلى 32، والآن إلى اثنين فقط يعودان إلى عائلتي طوقان والشكعة. بسبب تراجع الدورة الاقتصادية، أغلقت مطاعم المدينة الثلاثة أبوابها، وتحرك موسم النزوح إلى رام الله.

من جنين وحدها نزح زهاء 24 ألف نسمة بحثا عن الرزق. قبل الانتفاضة، كان ساكن المدن المحاذية لـ«الخط الأخضر» يجني ما معدله 4000 شيكل يومياً (800 دولار) في التجارة والخدمات.

«سوق الصابون تراجعت منذ العام 1993 إلى النصف من 620 طناً إلى 380 طنا سنوياً» بسبب مجموعة عوامل في مقدمتها الحصار، وتغيّر الأنماط الاستهلاكية، بحسب مدير مصنع «المفتاحين» العائد لعائلة طوقان، نائل القبّج، الذي يشتكي من هذه الحال مستشهداً بدراسة وضعها أخيراً. إقفال تلك المصانع وغيرها من المشغلين أدى إلى تسريح آلاف العمّال، ما رفع معدلات البطالة في مدن شمال الضفة الغربية وجنوبها أيضاً.

أصحاب مصانع الصابون، التي تعود إلى 150 عاماً، يدعون السلطة الفلسطينية، إلى دعمهم للحفاظ على «هذا الإرث التاريخي».

فياض يحاول تصويب الأوضاع

يقول أحد المقربين من رئيس الوزراء المستقل سلام فياض إنه يتحرك بسرعة لوقف نزف المال العام، واحتواء الفساد، وفقاً لمسؤولة في السلطة.

على أن «تقنين الإنفاق ووقف الأعطيات» جلب لرئيس الوزراء أعداء كثر، لا سيما في صفوف فتح، حاضنة رئيس السلطة محمود عباس. وهكذا بات رئيس الوزراء غير المسيّس في مرمى نيران حماس وفتح على حد سواء.

في شوارع رام الله تنتصب يافطات مفادها: «من يرى منكم فاسداً فليبلغ عنه»، ما يعكس رغبة معلنة في احتواء حالات التحايل على المال العام.

في إشارته إلى حجم التجاوزات، يقول أحد سكان جنين إن السلطة أمرت بتسريح 800 من 1400 موظف في البلدية. جاء ذلك بعد أن اتضح لرئاسة الحكومة أن 120 من المسرّحين ربات بيوت أو أشخاص كانوا يقبضون رواتب ضمن كوادر قسم الحركة، الذي يضم سيارتين فقط. ووجدت الحكومة أيضاً أن 90 من المسرّحين يدرسون في جامعات خارج الوطن، 50 يتلقون رواتب مزدوجة من الأجهزة الأمنية، فيما يعمل 80 عمال مياومة داخل إسرائيل.

بعد تدخل «الواسطة» أعيد 200 من المسرّحين إلى جدول رواتب البلدية.

في انتظار تحقيق وعود السلام، يتابع الفلسطينيون في رام الله وسائر مدن الضفّة الغربية حياتهم اليومية، مع التركيز على قوت يومهم، ومحاولة الثبات على أرضهم.

جمود سياسي، تمدد عمراني وأحلام مؤجلة رام الله.. عاصمة مؤقتة يكتنفها خوف وخيبة أمل
 
16-Apr-2009
 
العدد 72