العدد 71 - ثقافي
 

مراجعة: آن كي بانغ*

شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية بروز حقل “دراسات المحيط الهندي”، القائمة على إدراك حقيقة أن الشعوب التي قطنت سواحل المحيط الهندي قد ارتبطت من خلال علاقات تجارية وثقافية مستمرة طوال الألفيات الماضية. وفي الفترة نفسها، ظهرت دراسات عديدة جلبت معها نظرة تنتمي إلى “المحيط الهندي” تجاه الدراسة الثقافية للمناطق التي كانت في السابق تنحو إلى أن تُدرَس في صورة مستقلة، مرتبطة بقارتهم الخاصة أكثر من ارتباطها بحدود المحيط الخاص بهم.

ثمة موضوعة مشتركة في هذه الدراسات هي الافتراض الأساسي بأن المحيط الهندي، وعلى مدى فترة طويلة، كان مسرحا لتبادل ثقافي مكثف بين المناطق الساحلية لشرقي إفريقيا وجنوب الجزيرة العربية والهند وأرخبيلات جنوب شرق آسيا. وكان حضارمة اليمن إحدى الجماعات التي ارتحلت في هذا العالم في وقت مبكر.

وكان العلويون (Alawi s¯ada)، وهي فئة اجتماعية حضرمية معروفة تدعي أنها من سلالة النبي، قد ارتحلت كثيرا. كما كان العلويون محل تركيز خاص من جانب “إنغسنغ هو” في دراسته.

ويعالج “قبور حوض الصين” قضايا ميزت دراسة المحيط الهندي، وكثير منها موضوعات مركزية في الخطاب الجاري حول الكوزموبوليتية، العولمة، الهوية العابرة للمحلّة والإقليم. ويمثل الكتاب الإسهام الأول والأهم في دراسة الشتات عموما، مع التركيز على منظور طول المدة. وبحسب “هو”، فإن الشتات يأتي على مر الزمن، والناتج الفرعي الرئيسي عنه هو الغياب الذي يتكرر ويعاد تمثله عبر الأجيال.

تثبت الدراسة أن الترحال لا يرتبط بالضرورة بنهضة الغرب أو بالحداثة وفق المعايير الغربية. إلى ذلك، فإن التداخل بين الأنساب والمكان موضح هنا في صورة جيدة، النسب يحل محل المكان مع تشكل شتات العلويين، رغم أن المكان يبقى هو موقع الشتات كما يظهر في الأدبيات الخاصة بالعلويين، أما الوطن، فيُنظر إليه بوصفه مكانا للعودة، وأفكار الوطن مقابل الشتات تستمر مع الأجيال، ويتم التعبير عنها بعبارات ترتبط فيها ارتباطا وثيقا الأنساب والمكان الآتي من تراب الوطن وقبوره.

تكمن قوة الدراسة في استخدام مصادر نصّية تفسر بالرجوع إلى عالم الشتات الراهن للحضارمة، الذين يدرسهم المؤلف من خلال عمل ميداني إثنوغرافي. وفي دراسته للشتات، على الباحث أن يواجه حقيقة أنه يواجه تقاليد تأريخية ولغوية وإقليمية ووطنية مختلفة. في حين أن النتاج النصي لعلويي شرق إفريقيا، مثلا، يبدو بارزا في التاريخ المحلي لتلك المنطقة، التي تتحدث اللغة السواحيلية. ويستحضر المنظور الذي يعتمده “إنغسنغ هو”، التداخل الواضح بين النصوص (وكذلك النتاجات الثقافية عموما) التي وُضعت في مراحل مختلفة من شتات العلويين، والتي تركز في هذه الحالة أساسا على جنوب شرق آسيا وحضرموت نفسها.

بوضع هذه النصوص التي تنتمي إلى حقب مختلفة ومناطق مختلفة، مقابل بعضها بعضا، وتحليلها في سياق الوضع الراهن، يستحضر “هو” التقاليد المتكررة للنصوص، وكذلك تجاوز المحلية، كما فسرها المهاجرون أنفسهم على مر القرون. إلى ذلك، فإن تحليله يُبرز بجلاء العلاقةَ بين خطوط الدم وخطوط النص، والأنساب وما يمثلها. كما أن التحليل يلقي الضوء على علاقة التناص بين نصوص قد لا يكون بينها أي ارتباط.

هنا، يمهد كتاب “قبور حوض الصين”، الطريق أمام مزيد من الدراسات للشتات المقارن، في المحيط الهندي وفي أي مكان آخر. وفي الإطار نفسه، يساهم عمل “هو” أيضا، في دراسة النصوص الهجينة أو متعددة الثقافات عموما، مقدما نظرات يمكن أن تسري على دراسة الأدب أيضا.

وأخيرا، فمع أن النصوص التي يتم تدقيقها هي في الأساس نصوص إسلامية، والمجتمعات التي تُدرس في أغلبيتها الساحقة مسلمة، فإن كتاب “قبور حوض الصين” هو في الوقت نفسه دراسة للإسلام في المحيط الهندي، والذي تم نشره (وإعادته إلى حوض الصين) على أيدي العلويين. ونقطة القوة هنا تكمن في التركيز على الارتباط الوثيق بين خطوط السلالة وبين خطوط النص والأنساب والصوفية.

يتمتع الكتاب ببنية متناسقة ومكملة لبعضها بعضا حين يتعلق الأمر بالموضوعات التي يثيرها المؤلف، بدءا من تأسيس مكان من خلال طقس الجنازة، وكذلك من خلال الرحلة المتجهة إلى أشكال مختلفة من العودة إلى موقع الأجداد. كما تستحق اللغة أيضا تنويها خاصا، فشاهد القبر هو “علامة يشير حضورها الصامت إلى الغياب” (ص 1)، وهكذا فإن “هو” يستخدم فكرة الغياب بوصفها مكونا أساسيا للحركة. والعلويون يبدون مثل “تيار قوي” في “محيط لا يهدأ” (ص 102)، في استحضار للطريقة التي يتحرك بها العلويون وتأثيراتها، مع صخب تاريخ المحيط الهندي. هذا الأسلوب الطلي ومعه التحليل المذكور سابقا للمصادر النصية، يجعل أهمية الكتاب تمتد إلى ما وراء القراءة المتخصصة، ويجعله نقاشا عاما للترحال العابر للمناطق. والكتاب ذو أهمية لطلبة الأنثروبولوجيا الاجتماعية والتاريخ والدراسات الإسلامية والأدب.

وهنالك نقطة نقدية عامة، فالكتاب يعاني قليلا من عدم راهنية العمل الميداني (أحيانا تزيد المدة على عقد)، كما أن جهة العمل الميداني وتاريخه غير محددين أحيانا. على المرء أن يفترض أن حضرموت وعالم الشتات قد تغيرا منذ العام 1990، وبخاصة من حيث فرص العمل، وهو موضوع لا ينتهي إلى قرار بين الحضارمة، سواء كانوا مهاجرين أو مستقرين أو عالقين. وعموما، فإن هذا لا يثني القارئ عن دراسة شاملة تستحق قراءة واسعة.

* مركز دراسات الإسلام والشرق الأوسط، جامعة بيرغن، بيرغن، النرويج

بالتعاون مع:

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط

International Journal of Middle East Studies

الحضارمة: خطوط الدم وخطوط النص
 
09-Apr-2009
 
العدد 71