العدد 71 - ثقافي
 

عواد علي

عرض «فالصو» الجزائري، لفرقة المسرح الجهوي في مدينة سيدي بالعباس، هو العرض العربي الثالث في أيام عمان المسرحية المقتبس عن نص أجنبي. الأول كان العرض السوري «المهاجران» عن نص للكاتب البولوني سلافومير ميروجيك. الثاني العرض الفلسطيني «المتحول» عن رواية «المسخ» لكافكا. أما «فالصو» فمقتبس عن مسرحية «المنتحر» للروسي نيكولاي أردمان (1900- 1970)، التي كتبها العام 1928، وقام بإخراجها المخرج مايرهولد لمسرح موسكو الفني، لكن الرقابة السوفييتية منعت عرضها، ولم يُسمح بتقديمها إلاّ بعد وفاة ستالين، لأن الحدث الدرامي يجري في موسكو، والشخصيات تعيش رعباً يوميا خشية أن يُلقى القبض عليها وتُرمى بالرصاص.

اقتبس نص العرض محمد حمداوي، وأخرجه عز الدين عبار، وسبق أن فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان المسرح المحترف بالجزائر العام 2008، كما عُرض ضمن المهرجان الوطني للمسرح المغربي بمدينة مكناس، ومهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في العام نفسه.

يتناول العرض قضية خطيرة تعيشها الجزائر وبلدان عربية أخرى، نتيجة انتشار البطالة، من خلال حكاية الشاب «ناصر» الذي يحمل شهادة جامعية بعد سنوات طويلة من الدراسة، لكن هذه الشهادة لم تمكنه من إيجاد عمل لإعالة أمه، التي تحملت مسؤولية تربيته بعد وفاة والده، فعاش فراغاً كبيراً ولّد في داخله صراعاً مريراً، استطاع المخرج تجسيده بحرفية عالية، حيث صوره مثل قشة في مهب الريح، تعصف بها زوابع هوجاء في ليل مظلم، ويقرر الانتحار كوسيلة أخيرة للخلاص من مشكلة البطالة والإحباط الذي يعيشه، لكن ثمة جماعة من إسلاميين متطرفين تأتي إليه لتستغل نقطة ضعفه وتقنعه بالانتحار «الشرعي»، أي بعمل انتحاري (استشهادي حسب منطقها) ضد مَن تنعتهم بـ «الكفار»، وهم كل من يخالفها في منهجها ، وحين تعجز عن إقناعه واستمالته بوسائلها الخطابية تلجأ إلى إغرائه بالمال، فيرتدي جلبابها الذي يشبه الكفن ويطلق لحيته، ويشرع في ترديد خطابها كالببغاء، ويُحرّم ما تحرمه ويكفّر الناس على هواه، لكنه يبدو مثيراً للسخرية، ولا يتورع عن التعامل بهذا السلوك مع أقرب الناس إليه (أمه وخطيبته).

ثم يغدو «ناصر» هدفاً لجماعة مسيحية تبشيرية «إنجيلية»، تنجح في استمالته عن طريق الإغراء أيضاً، وهو إغراء مركب أكثر تأثيراً من الأول: المرأة والمال، حيث تتيح له إحدى النساء المبشرات فرصة لمغازلتها، في سلوك براغماتي مفضوح. ورغم اتساع ظاهرة التبشير في المغرب العربي عموماً، فإن الأسلوب الذي استخدمه المبشرون في المسرحية يبدو غير مقنع من الناحية الواقعية، فلا يُعقل أن تلجأ الحركات التبشيرية إلى هذا الأسلوب في «التنصير» والديانة المسيحية في جوهرها بيوريتانية (تطهرية). هذا الأسلوب تلجأ إليه بعض أجهزة المخابرات، عادةً، لاستدراج مَن تريد جعله جاسوساً لها ضد دولته، أما الحركات التبشيرية، فإنها تستخدم، كما هو معروف في الجزائر والمغرب، دروس التلقين والكتب والمطبوعات باللغة العربية (التي تقدّم المسيحية بوصفها دين سلام )، وكذلك الإغراء المالي وإغراء السفر للغرب، وصولاً إلى تسهيل مسار التعميد، الذي قد لا يستغرق أكثر من أربع وعشرين ساعة.

في مرحلة ثالثة من حياة بطل المسرحية يتحول إلى فريسة لسياسي مستغل، يتظاهر بترديد الشعارات الوطنية ويتاجر بالمبادئ، في حين يبيع بلاده مقابل توكيلات أجنبية. هنا تحاول المسرحية تعليق مشكلة البطالة كلها على مشجب الغرب، لكن هذا التسويغ يصب في إعفاء النظام العربي من دوره في المشكلة، وقد يحسّن صورته لدى المتلقي.

إلى جانب شخصية «ناصر» ثمة شخصية مهمة في المسرحية هي زوج أمه «السكير»، الرجل الذي قرر تطليق السياسة والانغماس في تناول الخمر ليزيد من إحباط الشاب الذي أعجزته البطالة، وأفقده البحر أصدقاءه الباحثين عن فرصة عمل.

اعتمد العرض على مسرح «البيوميكانيك» أو مسرح الحركة والإيقاع، عبر رسائل مشفرة وبأبعاد سياسية واجتماعية أعطت النص قوةً، وكانت نقاط ارتكاز أساسية في البناء السيكولوجي للشخصيات، وبخاصة أن الأداء اعتمد على مبدأي التنافر والتضاد الغروتسكي (السخرية المبالغ فيها)، الذي رسم معالمه فضائه السينوغرافي عبد الرحمن زعبوبي وحمزة جاب الله بعناصر متحركة تتناسب والتغيير الدائم للأماكن التي تجري فيها الأحداث، بتناغم مع الأداء الحيوي الجذاب للمؤدين على الخشبة في شكل بوليفوني صنع جمالية العرض.

أراد عرض «فالصو»، الذي جمع بين الكوميديا والمأساة، وتميز بجرأته، إدانة جميع الأطراف وفضحها، واختار المخرج المشهد الختامي ليعبر به عن النهاية الكئيبة، حيث تغطي خشبة المسرح ملاءة بيضاء كبيرة تتحرك في إيحاء بموج البحر الذي يُغرق الجميع، في حين يقف ‘’ناصر’’ تحت بقعة ضوء مركزة، وكأنه يتهم المجتمع بحالة الغرق التي طالت الكل.

العرض الجزائري “فالصو”: من يتكالب على الضحية؟
 
09-Apr-2009
 
العدد 71