محمد جميل خضر

العقل الفلسفي الإسلامي، والعلاقة بين الإيمان والعقل، والوعي والإدراك والنظر والتفكّر والتفقّه والتدبّر والاعتبار، والاستقراء والقياس، جميعها مواضيع ظلت تشغل بال الباحث الأردني أنور الزعبي حتى رحيله قبل أسبوعين عن 65 عاماً، بعد حياةٍ حافلة بالعطاء البحثي الفلسفي.

امتلك الزعبي رؤية منهجية حول العقل الفلسفي الإسلامي، واقتران النظرة الفقهية مع العقلية في آن واحد، ودرس العلاقة بين الإيمان والعقل.

في حوار صحفي أُجري معه قبيل رحيله، قال الزعبي إن هناك مفكرين إسلاميين نادوا بأن العقل قوة أو فعالية تعود للقلب. ورأى أن القلب هنا هو الذات الإنسانية أو مركز الشعور والوجدان، وليس «القلب الصنوبري كمضخة للدم وإن كان له تعلّق بذلك».

وأضاف أن العقل كفعالية ينطوي على أفعال عدة، تبدأ بالوعي والإدراك، ثم النظر والتفكر، ثم التفقه، ثم التدبر، وبعده الاعتبار.

كان الزعبي يرى أن الاستقراء والقياس معروفان كأسلوبين عقليين، ويمكن، بحسبه، إضافة العلامة والآية، ويمكن عدّهما من الدليل، فـ«الدليل في العلامة مثلاً، كدلالة وجود الدخان على النار ودلالة الضياء على وجود الشمس».

الحركات العقائدية مخطئة في وعي الزعبي. وبناءً على تنظيراته، جاءت الشريعة تخاطب العقل وأُنزلت إلى قوم يعقلون وينظرون ويتفكرون ويتدبرون ويعلمون، ولم تنزل لغير العقلاء. لذا كان يرى أن «التكليف هو العقل، والعقل يُحتاج إليه ليس في شؤون الحياة، ولكن في تعقّل النص الشرعي ومراجعه أبعاده»، لافتاً إلى أن فهم الشريعة ليس وقفاً على شخص بعينه.

تأمَّلَ الزعبي منجز الرواد العرب الذين نهضوا بعبء المراجعة والتحديث في بداية عصر النهضة، بوعي عميق لما هو خلف سطور كتاباتهم، وحواراتهم الجدلية البنّاءة أحياناً والمضطربة أحايين أخرى في إطار ثنائية الأصالة والمعاصرة، ورأى وفق قراءته لما تصدّوا له، أنهم «اهتموا إمّا باستعادة الماضي وإحلاله بالحاضر، وإمّا باستعارة النموذج الغربي، بعجره وبجره، وإحلاله بالحاضر؛ فنشأ تياران متصادمان، أحدهما يدعو إلى التغريب كاملاً، والآخر يدعو إلى الأصولية كاملاً».

الزعبي صاحب كتاب «واقعية بن تيمية» الذي فاز بجائزة جامعة الزرقاء الأهلية لأفضل كتاب العام 2003، كان دائم الدعوة لأن يعي العرب والمسلمون ذاتهم في الحاضر، بالاستفادة من الماضي واستشراف المستقبل، لكن دون تمثيل الماضي أو الـ(غير). وطرح في خضم حراكه الفلسفي البحثي المنهجي معادلة بهذا الخصوص تعتمد على ما يدعوه بـ«المنهجة، والنمذجة»، و«الأدلجة».

بيّن الزعبي المتخصص في مسألة المعرفة والمنهج، أن المطلوب الآن، تقديم نموذج عربي إسلامي للعولمة يكون مدعاة إلى القبول، ويأخذ في الحسبان أننا نعيش في عالم واحد مع الآخرين. ودعا العرب لمواصلة مقاومة ما أسماه «العولمة الأميركية»، وعرض أنموذجهم القيمي والحضاري بإيمان ووعي عميقين.

في حوار آخر أُجري ، علّل الزعبي اختياره دراسة المعرفة والمنهج، بقوله: «منذ أن حاولت التعرف على الحياة معرفياً وأنا تشغلني هذه المسألة. وكنت أطّلع على معارف كثيرة في اللغة والأدب والفن والفكر والعلوم، لكنني كنت أرى نفسي مأخوذاً أحياناً بهذا الفكر دون ذاك، ومحتاراً كيف يمكن لي أن أقيّم هذه المعارف والمعلومات. فطرأ لي أنه ينبغي عليّ أن أحاول إعادة النظر في ما أتلقاه، من خلال وسيلة تمكّن لي أن أميّز المعارف والمعلومات النافعة دون غيرها».

المنهج كان هاجسه وديدنه، فأقيمت بينهما (الزعبي والمنهج) علاقة تفاعلية تبادلية، قدم كل منهما للآخر خلالها ما يمكن أن يشكّل قيمة ويستحق العودة إليه والاسترشاد به.

«ساعدتني هذه الرؤية المنهجية في بلورة أفكاري منذ بداياتي، فكان أن ألّفْتُ كتاباً قبل أن أنهي الثلاثين من عمري أسميته (المقدمة)، عرضت فيه للمنهج الذي أتبنى في غربلة المعارف، وقد وزعته حينئذٍ على نطاق ضيّق على الأصدقاء طالباً رأيهم فيه، فوجدت التشجيع الكافي للاستمرار، وما زال هذ الكتاب يمثّل مرجعيةً بالنسبة لي». هذا ما قاله حول ما قدمتْ له المنهجية.

أما ما قدم هو لها، فيتضمنه كلامه في الحوار نفسه. حيث نشر سلسلة من المقالات تحت عنوان «في تحليل المفاهيم»، جُمعت في كتاب من جزأين. ثم تابع تحصيله العلمي في الحقل نفسه، فقدم رسالته لنيل الماجستير بعنوان «ظاهرية ابن حزم – مسألة المعرفة والمنهج»، ورسالته في الدكتوراه «مسألة المعرفة والمنهج في فكر الغزالي»، وتَوَّج هذه السلسلة بتأليفه كتاب «واقعية ابن تيمية – مسألة المعرفة والمنهج».

شغل الزعبي مناصب عدة في وزارة الثقافة، منها مديراً لمديرية التبادل الثقافي، ومديراً لمديرية ثقافة العاصمة، ومديراً للهيئات الثقافية، ومساعداً للأمين العام، ومديراً لمركز المعلوماتية الثقافية، ومستشاراً لوزير الثقافة. وكُلّف بالعمل أميناً عاماً لوزارة الثقافة بالوكالة، ورئيساً للمجلس التأسيسي لنقابة الفنانين الأردنيين.

في العام 1997 كان رئيساً للجمعية الفلسفية الأردنية، وفي العام 1993 رئيساً لجمعية الفلاح التعاونية، ونائباً لرئيس النادي العربي للثقافة والتنمية العام 1992، ومقرر لجنة مستقبل الثقافة العربية في الشارقة العام 1998.

من مؤلفات الراحل: «مسيرة المعرفة والمنهج في الفكر العربي الإسلامي، صورة مشهدية بانورامية»، «رسائل في المعرفة والمنهج»، «تيارات الفكر العربي الإسلامي المعاصر وتحولات العصر وتداعياته»، «دراسات في الفكر العربي الإسلامي»، و»العقل والعقلانية الشاملة في الفكر العربي الإسلامي».