العدد 2 - أردني
 

الرويشد (الحدود الأردنية - العراقية) - يتراكضون بين خرائب مخيم منعزل عن الحضارة.. يتبادلون التهنئة بقرب الرحيل الى عالم مجهول تاركين خلفهم أحلاماً مكسرة، سلسلة هجرات، حفنة أفراح وجراح وطيف الوطن الأم - فلسطين - الذي اقتلعوا منه قبل ستين عاماً.

شيوخ وعجائز ينتظرون "فرج" الهجرة الثالثة، الرابعة او الخامسة - بشوق هذه المرة - بخلاف رحلة الشتات الأولى عام 1948، أطفال ثلاثة ولدوا داخل المخيم يستعدون لمواجهة العالم الخارجي لأول مرة.

بعد أن سدّت أبواب الدول العربية وسائر العالم، فتحت البرازيل طاقة فرج، إذ قررت استقبال زهاء مائة فلسطيني، هم من تبقى داخل سياج "مخيم الرويشد" 70 كيلواً متراً من الحدود الأردنية - العراقية (600 كيلو متر من بغداد و300 من عمّان).

إنه الفصل الأخير من مأساة ألف من فلسطينيي العراق بعد أربع سنوات ويزيد من تدفقهم الى الحدود هرباً من جحيم الحرب الأميركية على بغداد واضطهاد سكان البلاد الأصليين.

قدّرت آخر إحصائية رسمية قبل الحرب عدد الفلسطينيين في العراق بـ32 ألفاً، غالبيتهم يحملون وثائق سفر عراقية.

آخر عائلة مؤلفة من تسعة افراد غادرت المخيم الاثنين الماضي بعد ان التم شملها بين الرويشد ومخيم الوليد داخل سورية. اذ سافرت رشيدة (76عاماً) برفقة ابنتها صبحية وأحفادها الأربعة القادمين من مخيم الوليد. اثنان من أبناء صبحية جاءا برفقة زوجتهيما وطفلة أحدهم نيفين.

على مدى الشهرين الماضيين ترك الرويشد كل قاطنيه على ثلاث دفعات. وبالتالي أسدلت الستارة على فصل من فصول الشتات الفلسطيني.

ونجحت المفوضية العليا في اقناع الولايات المتحدة باستقبال آخر عائلة عراقية مؤلفة من خمسة أفراد كانت تعيش الى جانب الفلسطينيين داخل الرويشد، على ما أفادت المسؤولة الإعلامية في المفوضية السامية رنا صويص.

وقد قررت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية إزالة هذا المخيم نهائيا خلال الأسابيع المقبلة الذي كانت تديره بالتعاون مع المفوضية حسب ما أفاد به أمينها العام الدكتور عبد السلام العبادي.

في خلفية المشهد الفلسطيني توق الى لمّ الشمل مع شركاء سابقين في البؤس، قبل أن يغادروا المخيم الى حياة جديدة - 400 الى الأردن أكبر مستضيف للاجئين الفلسطينيين، وبضعة مئات الى كندا ونيوزلندا.

تحت سقف كل خيمة حكاية شقاء ورحلة صراع من أجل البقاء تختزل معاناة عائلات وحدّتها مأساة التهجير، فحاولت التأقلم وظلت على تواصل مع الذين شقوا طريقهم الى أراضي الهجرة الجديدة من كندا الى استراليا.

بقي المغادرون الأوائل على اتصال هاتفي وإلكتروني مع من اصطفوا في طابور الانتظار حتى بلغهم رسمياً نبأ الرحيل الى البرازيل.

أحمد مصطفى محمود (40 عاماً) يستذكر كيف وصله خبر موافقة البرازيل، على استضافة من تبقى في الرويشد قبل شهر من الإعلان عنه رسمياً. جاءت البشرى من - لؤي عوني - أحد قاطني المخيم السابقين الذين هاجروا الى استراليا بعد أن رصده على موقع إلكتروني هناك.

ظلّ التشكك سيد الموقف حتى وصل النبأ رسمياً فشعر محمود وشركاؤه في البؤس بأنهم "ولدوا من جديد".

محمود استبق السفر الى البرازيل بإلباس ابنته رسل وطفله معن - الذي ولد في المخيم الى جانب طفلين آخرين - زي الفريق البرازيلي.

شرع الأب السعيد بتعلم اللغة البرتغالية. يقول محمود إنه مستعد للعمل في أي مهنة في بلد المهجر الجديد، علماً أنه كان سائق سيارة أجرة في بغداد، التي ترك فيها والدته وشقيقته.

في الانتظار تعلمت أم معن التطريز، كما اجتاز الزوجان دورات في الحاسوب، والصحة العامة والنفسية والدفاع المدني نظمتها هيئات الأمم المتحدة.

حتى السبعينية رشيدة، التي فقدت وحيدها عدنان العام الماضي، تخوض الآن غمار حياة جديدة في البراز يل بعد أن انضمت إليها ابنتها صبحية وسائر افراد عائلتيهما. خيبة الأمل أوقفت دقات قلب عدنان ولما يتجاوز الثانية والخمسين. تقول الأم الملتاعة إنه توفي "كمداً" في اليوم التالي لعدم ظهور اسمه ضمن لائحة المقبولين الى كندا.

شتات في الحياة وشتات في الممات

عدنان دفن في الرويشد، بقعة متوسطة بين بغداد ومسقط رأسه حيفا داخل إسرائيل.

أما والده فمدفون في حلب (شمال سورية) التي لجأت اليها العائلة مؤقتاً حين أخرجت من لبنان في سبعينيات القرن الماضي قبل أن تستقر في العراق. هذا الأخير مثوى والد رشيدة الذي اقتلع من حيفا.

الزمن، الترحال وفقدان الأحبة حفرت أخاديد في وجه أم عدنان، لكنها تتطلع للاندماج في ا لمجتمع البرازيلي لتبدأ "حياتها من جديد".

سيبقى موت الطفلة آية عوني حرقاً قبل عامين محفوراً في ذاكرة من احتضنهم المخيم لا سيما شقيقها الوحيد ذو الست سنوات. "موت آية كان أكبر مأساة اذ سقط جسدها ذو الثلاث شمعات حين التهم حريق سبع خيم داخل المخيم"، يستذكر بحسرة أبو معن وزوجته.

في ليل الصحراء الموحشة لمعت ومضات فرح عابرة، إذ شهد المخيم عقدي قران وولادة ثلاثة أطفال.

من وحي المستقر الجديد، يخطط أحمد محمود طالب لإنجاب "12 ابناً حتى يشكل فريق كرة قدم"، بخلاف عروسه سجى سمير صبري التي أكدت ضاحكة أنها "ستكتفي باثنين".

أحمد وسجى، اللذان اقترنا مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، ينتظران مولودهما الأول خلال أسابيع.

ذكريات العشق والاقتران تتشابك مع بؤس المكان أيضاً بالنسبة لفاطمة وليد سعيد وحسام اللوح. ينتظر العريسان طفلتهما الأولى خلال أيام قبل أن تغادر العائلة - التي تكونت في المخيم - إلى البرازيل. بالنسبة للكثير من سكان المخيم، يتغلب الهم الشخصي على الحنين الى الوطن الأصلي.

محمد الأربعيني يرى أن فلسطينيي الشتات - لا سيما في العراق - "مش محسوبين أصلاً فلسطينيين. ما عندنا هوية ومش مسجلين بالأونروا وما عنا حق العودة. فأنا على قناعة بأن واقع الحال لا يسمح لنا بالعودة إلى فلسطين". اما في البرازيل، يضيف محمد، "فسأحصل على جنسية وأشعر أنني إنسان لأنني لغاية اللحظة لا أشعر أنني إنسان فبدون هوية لا قيمة ولا احترام للإنسان".

أم معن وجارتها أم حسام، التي كانت تعمل تقنية أسنان في بغداد، تتمنيان أن تكون رحلة البرازيل "الهجرة الأخيرة" فأهالينا تعذبوا ونحن من بعدهم ولا نريد لأطفالنا نفس المصير". في المقابل ستبقى "فلسطين في وجدان" الامرأتين.

تأمل أم حسام في أن تندمج العائلات في "المجتمع (البرازيلي)، تعلم أطفالها وتعيش حياة نظيفة بعيداً عن الصحراء".

محمود (58 عاما) يعتبر "البرازيل بلده الثاني لكنه لن يتخلى عن فلسطين". الرجل ذو الشعر الأبيض الأشعث لا يستبعد الاقتران ببرازيلية بعد أن فشل زواجه الأول من فلسطينية قال إنها هجرته.

صافي عيسى الصافي (63) (من بيت لحم/الضفة الغربية) لم يرَ أفراد عائلته منذ 41 عاماً. يقول "ماتت أمي ولم أرها. ومات خالي وخالتي وأختي وأعمامي. كما مات شقيقي العام الماضي دون أن أشارك في جنازته". في البدء تدفق 1000 فلسطيني من العراق إلى الرويشد. أربعمائة منهم دخلوا إلى الأردن فيما توجهت بضعة مئات إلى كندا ونيوزلندا.

بسفر دفعة البرازيل يكون الفصل الأخير من المأساة قد طوي لتبدأ رحلة أمل علّهم يندمجون في مجتمع مغاير بعيداً عن صدود العواصم العربية ومخيمات الصحارى.

الرويشد في مهب الريح بعد إخلائه من آخر نزيلة – سعد حتر
 
15-Nov-2007
 
العدد 2