العدد 71 - كتاب
 

خرجت علينا قمة العشرين في ختام لقائها الأخير في لندن بتاريخ 2/4/2009، بمجموعة من التوصيات والقرارات أو «الروشيتات» الدوائية الهادفة في رأي المجتمعين لأن تكون «خريطة طريق»، في مواجهة الأزمة المالية المتفاقمة إلى مستوى الأزمة الأعمق منذ الكساد الكبير في (1929 -1933)، وحتى أنها تتجاوزه في الامتداد الجغرافي العالمي.

وقد تمثلت هذه التوصيات والقرارات في تبني بعض الأدوات والمخارج المالية، مثل التعهد بضخ وإنفاق ما يقارب 1.1 تريليون دولار، في شرايين الاقتصاد العالمي، في فروع نشاطه، وفي أقطاره، وحرص المجتمعون على التأكيد أن ذلك سيتم من خلال صندوق النقد الدولي، وعبر زيادة رأسماله، بحيث يخصص منه 250 مليار دولار أخرى لتعزيز التجارة الدولية وتوسيعها و250 مليار دولار أخرى لزيادة «حقوق السحب الخاصة»، و100 مليار دولار لرفد الاقتصاديات الأكثر ضعفاً وحاجة للتمديد، ودعمها.

ليس من الصعب بمكان أن نستنتج أن تعهداً كهذا لا يخرج في جوهره عن مسارات سابقة اعتمدت ونفذت في مواجهة الأزمة، ولوقفها، وللخروج منها، ولم تكن نتائجها مجدية إن لم تكن زادت الطين بلة، ومن ذلك خطة بوش الإنعاشية الأولى بقيمة 192 مليار دولار، فخطته الثانية البالغة 700 مليار دولار، ثم خطة أوباما الثالثة بقيمة 787 مليار دولار، ووصف الخطتين الأخيرتين بأنهما ستكونان البلسم الشافي، فيما تشير الدلائل الأولية إلى أنهما لم يكونا كذلك.

في بيان القمة الختامي، وفي تصريحات رئيس الوزراء البريطاني براون، لم يتم توضيح المصادر التي سترد منها مبالغ الدعم والإنعاش، وهل ستكون حسب أنصبة المشاركة الحالية للدول في صندوق النقد الدولي، أم سيتم تحميل عبء أكبر على دول عربية ونامية، كما لم يتضح ما إذ ا كانت الأنصبة المقررة متوافرة أم لا، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، أم إن الأخيرة ستلجأ إلى الاستدانة مجدداً من خلال «سندات الخزينة» المثقلة؟ أم إن الأمر لن يكلفها أكثر من طباعة دولارات ورقية لم تعد ملزمة بتغطيتها بالذهب أو بأي غطاء آخر مقبول.

وفيما لا يوجد أي ضمان بأن أقطار قمة العشرين كافة ستوفي بما تعهدت به، وكما حدث في قرارات غير مؤتمر لدول مانحة سابقاً، فإنّ قرارات القمة خلت من أي بيانات تبرز القواعد والمعايير والمواقع التي سيتم بموجبها الإنفاق، أو يوجه إليها الرفد الإنعاشي، ولمن سيكون له قصب السبق، أو نصيب الأسد منه، كما خلت البيانات من الإشارة إلى الجهة المفوضة بقرارات الإنفاق وتوزيعها، ومتابعتها، وهل ستكون هيئة جديدة أم سيوكل الأمر إلى الصندوق الذي لم ترد أي توضيحات في ما إذا كان سيستمر على النهج نفسه الذي تقرر في «بريتون»، و«دوز» وما زال، أم سيتغير جذرياً؟.

بدلاً من تقرير العودة إلى تبني قاعدة الذهب ولو جزئياً، وإبراز أهميته في تعزيز العملات وأسعار صرفها، وتدعيم الثقة في المسار الاقتصادي، والعمل على تصويب القرار الأميركي سيئ الذكر بفك ارتباط قيمة الدولار بالذهب في العام 1971، فإنّ قمة العشرين بعكس ذلك، وبتأثير أميركي، طلبت من الصندوق تسييل مخزونه من الذهب (كلياً أو جزئياً ليس واضحاً) وإلى دولارات على الأرجح، بحجة استخدام الحصيلة لتمويل حاجة الدول الفقيرة!!.

الولايات المتحدة، وأقطار رأسمالية أخرى متطورة، تبنت تاريخياً قاعدة «احترام السرية المصرفية» عندما كان ذلك يدعم نظامها ونشاطها الرأسمالي، لكنها مع هجرة مزيد من رؤوس الأموال إلى أقطار أخرى، أخذت تتحدث عن المخاطر الناجمة عمّا أطلقت عليه عنوان «الملاذات أو الجنات الضريبية» التي انتقلت إليها الأموال المشروعة وغير المشروعة، ومن ثم أقحمت في قمة العشرين قراراً بإعداد قوائم «سوداء ورمادية»، للتضييق على أقطار رأسمالية أخرى ما زالت تحترم وتتبنى مبدأ «السرية المصرفية» رغم أنه تبنٍّ ليس بالمطلق، ويمكن الكشف عنها بموجب قرارات قضائية، ويأتي هذا القرار استكمالاً لهيمنة أميركية، وبخاصة على النشاطات والعلاقات والمعلومات والحوالات المصرفية والمالية واتجاهات حركتها، وترجمة ذلك سياسياً.

مقابل التركيز الواضح في قرارات القمة على بعد المزيد من الإنفاق التحفيزي والإنعاشي بما يتوازى مع الفلسفة الأميركية في مواجهة الأزمة، فإنّ القمة اكتفت وبما يقترب من ذر الرماد في العيون، ومن أجل توفير غطاء شكلي يرضي فرنسا وألمانيا وأقطار أخرى، بالمطالبة بإصلاحات جذرية للأسباب الفعلية للأزمة ومحاسبة المسؤولين عنها. اكتفى بيان القمة بإشارات بشأن الاتفاق على خطوات للإشراف على الأسواق، وتبني آليات دولية لتنظيم الأسواق المالية وضبطها، وسد الفجوات الحكومية الإشرافية، وإخضاع صناديق التحوط ووكالات التصنيف الائتماني للمراقبة والمتابعة، ووضع قواعد جديدة لسقوف الرواتب والمكافآت والبدلات!!، بما لا يشكل في مجموعه نظاماً اقتصادياً واجتماعياً جديداً.

قرارات القمة وتوصياتها ابتعدت حتى عن تبني توجهات ومسارات القواعد الإصلاحية الكينزية في وقف الأزمات أو التخفيف منها، وبالعكس ما زالت قرارات كهذه، تتسم في معظمها بنهج الليبرالية الجديدة، حيث ما زال العديد من قادتها وفلاسفتها يتربعون على مواقع القرار الاقتصادي والسياسي.

هل يمكن لاقتصادي أو سياسي موضوعي أن يتصور أو يصدق أن توصيات وقرارات جذرية متوازنة يمكن أن تصدر عن اجتماع دولي دام ليوم واحد أو خلال ساعات منه، إنها قرارات بروتوكولية في معظمها، والأرجح أنها طُبخت وأُعدت قبل ذلك في مواقع أخرى، لتُقرأ أو تُعلن على مسرح اجتماع العشرين لا أكثر.

أحمد النمري: الأزمة الاقتصادية في عيون قمة العشرين
 
09-Apr-2009
 
العدد 71