العدد 71 - الملف
 

حسين أبو رمان

إذا كانت انتخابات 1989 أهم حدث دشّن عهد الانفراج الديمقراطي في البلاد بعد أحداث نيسان/أبريل 1989، فإن إنجاز “الميثاق الوطني” في حزيران/يونيو 1991 مثّل أهم إنجازات العهد الجديد.

ظهر مصطلح “الميثاق” لأول مرة في مفردات السياسة الأردنية الرسمية في أحاديث الملك الحسين التي أعقبت أحداث نيسان/أبريل من العام المذكور، دون تحديد لمضمونه، ولذا لم يحظ باهتمام الرأي العام إلا بعد الانتخابات التي جرت في أواخر العام نفسه.

يستذكر عدنان أبو عوده، المستشار السياسي آنذاك للملك الحسين، أن حواراً جرى مع الحسين حول أهمية وجود شركاء للدولة من القوى السياسية لعبور المرحلة الجديدة الصعبة. وحينما أصبح واضحاً أن صيغة الميثاق هي المدخل لذلك، تم التأكيد على أن تشتمل عملية التأطير إجماعاً من القوى المعارضة، ولا سيما اليسارية والقومية، على مبدأ الملكية الدستورية.

الحديث الأكثر دقة حول الميثاق الوطني، ورد في خطاب العرش في افتتاح الدورة العادية الأولى لمجلس الأمة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1989: “سنؤلف لجنة ملكية لصياغة ميثاق وطني يرسم إطار مسيرتنا في العمل العام منبثقاً عن أحكام الدستور والثوابت التي تقوم عليها المملكة الأردنية الهاشمية، ويحدد المفاهيم المركزية الأساسية الوطنية والقومية التي ستسير الدولة على هديها وتعمل بموجبها، والتي ستقوم على أساسها وتنشط وفقها التنظيمات السياسية”.

أحداث نيسان مثلت مؤشراً على حاجة البلاد إلى عقد اجتماعي جديد يعيد للشعب حرياته الديمقراطية والعامة المصادرة على مدى 22 عاماً من الأحكام العرفية التي أعلنت بعيد وقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1967. ولقد اعترف الملك الحسين في كلمته أمام اللجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني بهذا المغزى لأحداث نيسان/أبريل 1989 حين أشار إلى أنها “هي التي أوحت بضرورة تجديد العقد الاجتماعي”، وأكد “أن تلك الأحداث كشفت عن حقائق مهمة، أبرزها أن مجتمعنا كان يعيش حالة من التوتر الاجتماعي-الاقتصادي”.

اقترن الإقرار بالحاجة إلى العقد الاجتماعي الجديد بتصور عام للمحددات التي ينبغي أن تحكم هذا التحول. هذه الإشكالية أوضحها الملك أمام لجنة الميثاق بقوله إن “دخولنا معركة المشاركة البرلمانية ونحن نحمل قناعات متناقضة أو متباعدة حول بعض المرتكزات الأساسية والثوابت التي تقوم عليها الدولة”، كان بالتأكيد “سيشل قدرتنا على حل مشكلاتنا وعلى مواجهة التحديات والأخطار الكبيرة التي نواجه”.

ردود الفعل الأولى على مبدأ الميثاق الوطني راوحت في طيف واسع بين الرفض والتأييد. ولكن القوى المستهدفة أكثر من غيرها بخطاب الميثاق الوطني، وهي التنظيمات القومية واليسارية والإسلامية، اتخذت مواقف حذرة ربطت فيها الموافقة المبدئية على الميثاق بعدد من المطالب التي تتعلق بتصورها لآليات إعداده وإقراره.

أما المسالة التي احتلت حيزاً أكبر من المناقشة وتباينت حولها الاجتهادات، فهي تتعلق بشكل إقرار الميثاق، فقد أكد الحسين بوضوح في افتتاح مجلس الأمة على ضرورة عرض الميثاق الوطني بعد صياغته على الشعب في استفتاء عام.

أحد أبرز وجهات النظر المعارضة للاستفتاء تبنتها فعاليات حقوقية، وارتكزت في موقفها إلى غياب السند الدستوري لإجراء الاستفتاء، ورأت في ضوء ذلك أن الاستفتاء، إذا ما جرى، فسيكون أعلى مرتبة من الدستور. وقد فرض هذا الموقف نفسه. أما تعبيرات المعارضة الأخرى للاستفتاء، فقد انطلقت من نظرة براغماتية ارتأت أن يقوم مجلس النواب بإقرار الميثاق.

حزب الشعب الديمقراطي الأردني “حشد”، كان من بين القوى التي دعت إلى إقرار مجلس النواب للميثاق الوطني، بحسب عبلة أبو علبة عضو المكتب السياسي للحزب.

ومع أن آلية إقرار الميثاق بقيت معلقة على امتداد فترة إعداده، فإن الأمر رسا في نهاية المطاف على عقد مؤتمر وطني لمباركة الميثاق من فعاليات ذات صفة تمثيلية من مختلف مؤسسات البلاد ومناطقها، تشمل أعضاء لجنة الميثاق، نواباً، أعضاء مجالس بلدية، نقابات عمالية ومهنية وأندية وغيرها.

تم تشكيل اللجنة الملكية لصياغة الميثاق الوطني بتاريخ 9 نيسان/أبريل 1990، من 60 عضواً برئاسة أحمد عبيدات رئيس الوزراء الأسبق. وقد استوعب التشكيل معظم ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، بمن في ذلك ممثلون عن التنظيمات اليسارية والقومية التي كانت، من الزاوية القانونية، محظورة آنذاك. وكان من بين أعضاء لجنة الميثاق 17 نائباً من أصل 80 نائباً هو عدد أعضاء المجلس النيابي.

أجرى عدنان أبو عودة، مستشار الملك السياسي آنذاك، مشاورات مع مختلف القوى والفعاليات السياسية لتشكيل اللجنة الملكية، ساعده في ذلك الكاتب الصحفي حمادة فراعنة، الذي أصبح لاحقاً عضواً في مجلس النواب الثالث عشر (1997-2001). وفي إطار هذه المشاورات استضاف الفراعنة في منزله لقاءين بين أبو عودة وعدد من رموز القوى اليسارية والقومية.

وفور تشكيل لجنة الميثاق، ألقى الملك الحسين كلمة توجيهية أمام أعضاء اللجنة، حدّد فيها تصوراته لمضمون الميثاق ووظيفته. وأشار إلى أن صياغة الميثاق الوطني تشكل خط البداية الذي يتلاقى عليه الشعب بسائر فئاته للانطلاق نحو التعددية السياسية.

شهدت فترة إعداد الميثاق الوطني تطورات داخلية وإقليمية مهمة. فعلى الصعيد الداخلي، كان هناك نهوض ملموس للحركة الشعبية بالاستثمار الإيجابي لدور وثقل مجلس النواب الحادي عشر (1989-1993) في الحياة السياسية والعامة. وعلى الصعيد الإقليمي، كانت هناك أزمة وحرب الخليج الثانية التي عاشت البلاد إزاءها توافقاً بين الموقفين الرسمي والشعبي في دعم العراق ضد الغزو الأميركي الأطلسي، ما عزّز وحدة الحركة الشعبية ونهوضها وتوسيع هامش الانفراج الديمقراطي وحرية الأنشطة الجماهيرية.

وإلى جانب التوازن النسبي في تشكيل لجنة الميثاق، والخبرات التي شاركت فيها، تأثرت أعمال اللجنة إيجابياً بالظروف والأجواء المحيطة، بحيث يمكن القول إن الميثاق الوطني مثّل صيغة متقدمة تجاوزت بالتأكيد السقوف المقدرة لها.

وبالرغم من الأهمية السياسية التي أعطيت للميثاق الوطني فإنه يفتقد إلى المرجعية التي ترعى تنفيذ توجهاته، فضلاً عن كونه لا يحتل أية مرتبة من مراتب التشريع، رغم أنه كان مفترضا أن يشكل، بما تضمنه من مبادىء ومفاهيم، أحد مصادر التشريع الرئيسية. وفي الواقع العملي، اقتصر مفعول الميثاق المباشر على صعيد التشريع على إصدار قانون الأحزاب السياسية لسنة 1992، وقانون المطبوعات والنشر لسنة 1993.

لقد مثّل الميثاق صيغة متقدمة بمقاييس الحالة الديمقراطية والوضع الاقتصادي والاجتماعي القائمين انعكاساً لظروف النهوض العام التي جاء في ظلها، ولذا فإن أثره المحدود في مأسسة الديمقراطية ونقل الأردن إلى مرتبة دولة القانون والمؤسسات، يعكس تراجع الحركة الشعبية في ظروف انهيار الاتحاد السوفييتي وضرب القوة الإقليمية العراقية ثم دخول الأردن في مفاوضات السلام مع إسرائيل.

الامتحان الأول للميثاق كان في رفض مجلس الأعيان الأخذ بمبدأ إخضاع القرار بإعلان حالات الطوارىء ومدة سريانها إلى رقابة مجلس الأمة، بينما نص الميثاق على ذلك. وعطّل مجلس الأعيان أيضا صدور قانون الكسب غير المشروع (أصبح قانون الذمة المالية) فترة طويلة من الزمن، وكانت السلطة التنفيذية قد تقدمت بمشروع هذا القانون تحت ضغط المطالبة الشعبية بمحاربة الفساد والسطو على المال العام.

كما عطل مجلس الأعيان صدور قانون نقابة المعلمين باللجوء إلى مجلس التفسير العالي الذي أصدر “فتوى” بعدم دستورية تشكيل نقابة للمعلمين، بحكم كونهم موظفين في الدولة، رغم أن معظم المهنيين العاملين في أجهزة الدولة ينتسبون إلى نقاباتهم المهنية مع زملائهم العاملين في القطاع الخاص. علاوة على ذلك، لم يتم الاقتراب من ملف تحديث الدستور وإنشاء محكمة دستورية، وهو ما أوصى به الميثاق.

كل هذا يشير إلى تجاهل الميثاق في الحياة السياسية، وباتت الأمور تبدو كما لو أنه قد استنفذ الغرض منه. ومن الواضح أن التجميد غير المعلن الذي مرّ به الميثاق قد ارتبط بتراجع حالة الانفراج الديمقراطي ككل.

تتكون وثيقة الميثاق من مقدمة تاريخية، وثمانية فصول تغطي قضايا دولة القانون والمؤسسات، الأمن الوطني، المجال الاقتصادي، المجال الاجتماعي، الثقافة والتربية والعلوم والإعلام، العلاقات الأردنية الفلسطينية، وأخيراً العلاقات الأردنية العربية والإسلامية والدولية.

تجميده يمثّل أول انتكاسة الميثاق الوطني 1991: وثيقة مصالحة بين قوى المعارضة والدولة
 
09-Apr-2009
 
العدد 71