العدد 71 - الملف | ||||||||||||||
عطاف الروضان بعد مرور عشرين عاماً على “هبة نيسان” والتقاط إشارة الاحتجاج الشعبي من معان جنوبي المملكة على قرار رفع أسعار المحروقات، الذي اتخذته حكومة زيد الرفاعي آنذاك في شكل مفاجئ، فإن الواقع الاقتصادي اليوم ليس أفضل حالاً، لكن بث الحياة في الديمقراطية التي رقدت في حالة موت سريري منذ العام 1967، بالإعلان عن إجراء انتخابات برلمانية جديدة، النتيجة البهية لتلك الهبة. أحداث الجنوب في أبريل/ نيسان 1989، قادت إلى إجراء الانتخابات النيابية في الأردن لأول مرة بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية سنة 1967، كانت سبقتها، انتخابات تكميلية العام 1984 لملء الشواغر الناجمة عن وفاة ثمانية نواب في الضفة الشرقية، وعدد آخر يقاربه في الضفة الغربية، قبل قرار فك الارتباط الإداري والقانوني بين الأردن والضفة الغربية في يوليو/ تموز 1988. بداية نيسان 1989، كان على جدول الملك حسين زيارة رسمية إلى واشنطن، ويستذكر عدنان أبو عودة، مستشار الملك آنذاك، أن الحسين عقد اجتماعاً في اليوم السابق للزيارة في قاعة الصور في الديوان الملكي، ضم رئيس الحكومة زيد الرفاعي، وزير المالية حنا عودة، ومحافظ البنك المركزي حسين القاسم، ورئيس الديوان الملكي الشريف زيد بن شاكر، بحضور الأمير الحسن ولي العهد في ذلك الوقت، وعدنان أبو عودة مستشار الملك. وبحسب أبو عودة، فإن الملك سأل الرفاعي الذي كان على وشك أن يتخذ قرارا برفع أسعار المحروقات، إن كان متأكدا من أن القرار قد درس جيدا، “فقد كان الملك حريصاً على عدم صدور ردود أفعال سلبية كان متوجساً منها”. فبادر الرفاعي بالرد بأن “كل شيء مدروس”. صادف نيسان/أبريل في ذلك العام شهر رمضان، “فبادرت للسؤال”، يقول أبو عودة عن منطقية توقيت رفع الأسعار قبيل هذا الشهر المثقل بالنفقات، وهل هناك تصور على تأثيره السلبي على المواطن، فكان الجواب شرحاً رقمياً قدمه وزير المالية حينئذ باسل جردانة بأن “كل شيء تحت السيطرة”. كانت الحكومة قررت تطبيق ما كان يسمى آنذاك “وصفة واشنطن” التي كانت تعني نهجا اقتصاديا جديدا يقوم على الذهاب للخصخصة وتقليص دور الدولة، كعلاج لمديونية الأردن، عبر الارتباط بسياسات البنك الدولي وصندوق النقد، وهو قرار أعلنته حكومة الرفاعي بشكل مفاجئ للجميع وعلى أعلى المستويات. كانت مديونية الأردن قد وصلت حدودا منذرة قبل ذلك بعام، واحتياطات البنك المركزي من العملات الصعبة كانت في أدنى مستوياتها، ما أدى إلى انهيار سعر صرف الدينار الأردني وفقده نصفَ قيمته. وقد رأت الحكومة الحل في قبول ما يعرف بوصفة صندوق النقد الدولي المشار إليها. يقول رئيس الديوان الملكي الأسبق عدنان أبو عودة: “ربما كان غياب المقدمات للحالة الاقتصادية المتردية وتراكم الديون على الميزانية هو الأكثر إزعاجاً للراحل الملك حسين في معالجة الحكومة آنذاك للمسألة”. الغضب الشعبي على ذلك القرار، أثبت أن “كل شيء لم يكن تحت السيطرة”، وتحول الغضب إلى أعمال عنف وشغب شملت مناطق المملكة، وجرت حملة مداهمات واعتقالات واسعة، وإقالة حكومة زيد الرفاعي، في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، في إطار شعور “ملكي أبوي أتقنه الملك الراحل مراراً وبخاصة في الحقبة الأخيرة من فترة حكمه”، بحسب أبو عودة. هبة نيسان عجلت في قرار إجراء الانتخابات التي كان قد مهد لها قرار فك الارتباط وغيرها من العوامل الإقليمية والدولية، كما يرى أبو عودة، “كانت لنا رغبه “كسلطة” في إشراك المعارضة بتحمل عبء الأوضاع الاقتصادية التي أدت لتلك الأحداث، كما أنها تنفيس لذلك الاحتقان”. لإنجاح الانتخابات، تجاوب القصر مع مطالب مسجونين سياسيين في سواقة بالإفراج عنهم ليتمكنوا من خوض الانتخابات، وصدر عفو عام خرجوا على إثره في أيلول وبدأوا التحضير مباشرة للانتخابات التي كانت مقررة آنذاك في تشرين الثاني/نوفمبر 1989، كما تم تعطيل الفقرة “هاء” من المادة 18 من قانون الانتخاب للعام 1985، والتي اشترطت في المرشح لعضوية مجلس النواب “ أن لا يكون منتميا إلى تنظيم غير مشروع والتنظيم غير المشروع هو كل حزب أو تنظيم تتنافى مبادؤه وأهدافه وغاياته مع أحكام الدستور”. ونجحت الخطوة، وما زالت مختلف الأطياف السياسية تصف انتخابات 1989 التي أفرزت المجلس النيابي الحادي عشر، بأنها الأكثر نزاهة وتمثيلاً وديمقراطية، ومجلسها الأكثر كفاءة وحضوراً محلياً وعربياً. وهو ما اتفق عليه جميع من تحدثنا معهم سواء ممن خاضوا التجربة أو راقبوها عن قرب أو بعد. يقول أبو عودة “قبلنا بالنتائج، كنا مرتاحين، فالمعارضة أصبحت شريكا، وأمامنا قرارات قادمة أصعب”. رافق هذه الانتخابات خطوة لم تكن معروفة من قبل، وهي استطلاع آراء الشارع حول نتائج الانتخابات، وكانت الحكومة هي التي قامت بهذه الخطوة. بدأت الفكرة باقتراح من مروان المعشر، السكرتير الإعلامي في لرئيس الوزراء آنذاك. رفض الشريف زيد في البداية حتى لا يعد ذلك تدخلاً في العملية الانتخابية” بحسب المعشر. وبعد إقناعه تم رصد أربعة آلاف دينار لإجراء الاستطلاع، ووقع الخيار فوراً على أول من قابلة: اللبناني طوني صباغ الذي كان يعمل في هذا المجال. صباغ كان أجرى استطلاعا للرأي قبيل الانتخابات اللبنانية للعام 1972، جعلته على مدار أسبوعين “نكتة بيروت” بحسب صحيفة “الحياة” اللندنية، وذلك قبل أن تثبت صحة توقعات الاستطلاع الذي توقع فيه نجاح شاب مسيحي مغمور يبلغ من العمر 28 سنة يدعى نجاح واكيم في منطقة البسطة غرب بيروت، وليس ناصيف مجدلاني، الشخصية الأبرز المتوقعة للفوز بذلك المقعد، وصدقت توقعات الاستطلاع. مروان المعشر شهد شخصياً هذه الحادثة، فقد كان في بيروت. يقول المعشر: “سألت، ماذا يمكن أن تفعل بهذا المبلغ؟ الجواب كان اختيار أقل عينة ممكنة: دوائر العاصمة الست، ودوائر إربد السبع”. التوقعات أظهرت احتمال حضور قوي للإسلاميين يراوح ما بين 22-24 مقعداً، مقابل توقعات رسمية بأنها لن تتعدى الثمانية. يقول الصباغ: “نتائج الاستطلاع أثارت ردود أفعال كثيرة لدى المسؤولين من مصدّق ومن مشكك، إلى أن أُخطر بإجراء استطلاع آخر للدائرة الثالثة في عمان، لأن النتائج أظهرت أن فخري قعوار سيفوز، بينما شكك الجميع في ذلك. النتائج الجديدة لم تختلف عن الأخرى، وهذا ما كان بالفعل. الملمح الأبرز لتشكيلة المجلس الحادي عشر كان تقاسم قوى مستقلة وحزبية ومعارضة، المقاعد الثمانين، قوام المجلس في حينها. فاز في الانتخابات 22 نائبا للإخوان المسلمين، وحصل الإسلاميون المستقلون على 6 مقاعد، ووُزّعت زهاء 10 مقاعد بين قوى يسارية وقومية، يلتقون على طروحات متقاربة من قضايا الإصلاح والحريات. يوافق النائب الحالي بسام حدادين على أن هذه الانتخابات التي شارك فيها بـ”قائمة المشاركة والتغيير” التي مثّلت حزب الشعب الديموقراطي (حشد)، “هي الأكثر نزاهة وشفافية”، رغم تعرضه، كما قال، لتضييق محدود فيها. حدادين انتُخب نائباً عن المقعد المسيحي بالزرقاء منذ 1989 وما زال يحتله حتى اليوم. يصف حدادين نتائج الانتخابات بأنها كانت مكافأة شعبية للأحزاب بعد أن قدمت رموزها وقياداتها وأعضائها تضحيات كبيرة من الحبس ومنع السفر وفصل من العمل، ويرى أنها كانت نوعية بسبب “التحالفات بين القوى الحزبية والتي سمح بها قانون الانتخاب في ذلك الوقت”. قانون الانتخاب 1989 كان يستند على تعددية الأصوات بحسب مقاعد الدائرة. يدلل حدادين على أفضلية الأداء بالمجلس الحادي عشر قياساً على المجالس اللاحقة، بأن “حضور المعارضة كان متنوعا، وجيدا عددياً، لدرجه أنها أنجحت نائبا إسلاميا رئيسا للمجلس ثلاث مرات”. في إشارة إلى النائب عبد اللطيف عربيات الذي ترأس مجلس النواب ثلاث دورات من عام 1990 إلى 1993. قوة البرلمان آنذاك بتحييد الإدارة العامة للمخابرات بأمر من الملك حسين الذي كان يردد دائماً “أريد أن أعرف ما هو كل المجتمع”، بحسب حدادين، الذي يرى أن الطبقة الحاكمة في ذلك الحين لم تكن تتوافر لديها خبرة للتعامل مع البرلمان، لذا تم تعيين مضر بدران، الخبير في الحكم الإداري، رئيساً للحكومة، خلفاً للشريف زيد، “كما ساهمت صداقة بدران للإخوان المسلمين في تعيينه بهذا المنصب، وهي بمثابة بوابة خلفية لتسوية العلاقة بين الحكومة والبرلمان الذي فلت من عقاله في كثير من المفاصل” كما يقول. وربما تكون هذه المفاصل سبباً يدفع النائب الحالي، حمزة منصور، الذي كان عضوا في المجلس الحادي عشر، لوصف المجلس بأنه “الأقرب إلى ضمير الأردنيين، وترك رصيداً لا بأس فيه في عدد من الملفات “المفاصل” الإفراج عن جوازات السفر المصادرة، وضع حد لتغول السلطة التنفيذية على المواطنين، مكاسب في الحريات العامة، إبراز هوية مجلس النواب وقدرته على محاسبة الحكومة، وأهم من ذلك إلغاء الأحكام العرفية وقانون الدفاع”. الأحكام العرفية ألغيت رسمياً العام 1992. برزت نزاهة تلك الانتخابات، كما يرى منصور، “لأن المرحلة كانت صعبة وكانت هناك رغبة لإسباغ الراحة على المواطن الذي اكتشف أنه يرزح تحت ضغط مديونية وفساد على مستوى مناصب متقدمة، ويرى أن التجربة قابلة للتكرار ولكن ضمن تشريعات “. يدلل الكاتب الصحفي فهد الخيطان على أهمية تلك الانتخابات بقوله إن ذلك “أمر غير مسبوق. الدولة قبلت هذا الطيف وما فكرت في التزوير، وتحملته لأربع سنوات هي عمر المجلس”. الخيطان الذي كان آنذاك ناشطاً سياسياً في الحزب الشيوعي، يصف هذه الانتخابات بأنها “أول تمرين بالذخيرة الديمقراطية الحية بعد انقطاعها لعقود، عادت بعدها الحياة الديمقراطية، الحريات، وخرج الخطاب الحزبي من السر للعلن، فاستقبله الناس بدهشة، ما انعكس إيجاباً على نوعية المرشحين والنواب وأدائهم. هو بالتأكيد مجلس مختلف عما تلاه”. يُرجع الخيطان الاختلاف إلى الأداء: “كان النواب شخصيات تهتم بالشأن العام أكثر من الخدمات، يطالبون فيها نعم، لكن بالإطار العام، لم تطرح امتيازات نيابية، الكتل كانت حقيقة متماسكة لا تتحرك وفق تعليمات من فوق، كل كان يمارس دوره الحقيقي تشريعياً ورقابياً”. لكن تغير كل شيء تقريباًً بعد تعديل قانون الانتخاب، وبدأ التراجع في العام 1993، لكن الأهم من ذلك أن الدولة من جديد أخذت زمام المبادرة لتوجيه المسار السياسي للمجتمع. بعد عشرين عاماً ينظر المواطن إلى الوراء، ويرى نهجاً في الحكم أدى إلى “أمننة” الحياة العامة في البلاد، وتدخل مكشوف في الانتخابات البلدية والنيابية. ورغم وجود المؤسسات كافة المكونة للمجتمع الديمقراطي، من برلمان وأحزاب ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني وصحف وإذاعات ومحطات تلفزة، فإن أيّا منها لا يقوم بالدور الذي يجب أن يقوم به في مجتمع ديمقراطي. |
|
|||||||||||||