العدد 71 - أردني
 

محمود الريماوي

باتت “هبة نيسان” بعد مضي عقدين على اندلاعها جزءاً من الماضي، ولا يتمنى عاقل أن تتجدد أو تتكرر الظروف التي “أنجبتها”. على أنه من الخفة بمكان القفز عن ذلك الحدث، واعتباره محض خلل أمني، وتجاوزات على القانون، بما لا يستحق معه سوى نسيانه وشطبه من الذاكرة الوطنية.

وفي الوقت نفسه، فمن الخطأ الجسيم، محاولة استنساخ ذلك الحدث مجدداً مع تغير الظروف، ومع وجود قنوات حوار واتصال بين المواطنين والسلطات، وفي ظل برلمان منتخب أيّاً كانت الملاحظات عليه، ومع صحافة تتمتع بحرية تعبير نسبية.

الثابت أن ذلك الحدث قاد إلى إقالة حكومة الأزمة، ثم تشكيل حكومة ذات ثقل سياسي، وإلى تلاقٍ شعبي ورسمي أدى إلى وضع حد نهائي للأحكام العرفية، وأذِن باستئناف الحياة الديمقراطية التي توقفت لأزيد من ثلاثة عقود، وأدرج الأردن في عداد الدول المتحولة إلى نهج ديمقراطي. ولا يعقل أن تكون جملة هذه التحولات المفصلية نتيجة حدث “تافه”.

من المفارقة أن ذلك التحول تزامن مع تغييرات أخرى في كوكبنا، طالت على الخصوص دول المنظومة الاشتراكية. وجه المفارقة أن الأردن ليس دولة اشتراكية ذات حزب حديدي وتتبع موسكو، بل هي ذات نظام اقتصاد حر وصديقة للغرب. مغزى ذلك أن الطلب على الديمقراطية كان (وما زال) يتجاوز أنظمة أو أيديولوجيات بعينها دون سواها.

يسجل للقيادة السياسية بين أمور جمة أخرى، أنها التقطت بروح مفعمة بالإيجابية، الرسالة الظاهرة والمضمرة لـ“هبة نيسان”، فأطلقت جملة من التحولات ما زلنا ننعم ببعض ثمراتها حتى الآن. حتى بدا في ذلك الحين أن الدولة كانت تشهد مخاضاً مكتوماً، تواقتَ مع ما أظهرته الـ“هبة” من انفعالات وتطلعات.

آن وبعد عشرين عاماً على ذلك الحدث، فإنّ من يسجلون اعتراضات ومواقف نقدية على هذا القانون أو ذاك الإجراء، فإنهم يحتكمون، في واقع الأمر، إلى مضمون تلك التحولات ومراميها، ومن عناوينها «الميثاق الوطني» الذي لحق به ظلم شديد بتجاهله شبه التام من بعض المراكز الرسمية، ولكأن ذلك العقد السياسي هو مجرد امتداد ورجع صدى لـ«أعمال شغب»، فيناله ما ينال تلك الأعمال من إسقاط من الذاكرة.

ما زال رائد الديمقراطيين وأنصار التقدم، هو ما حفلت به مرجعية الميثاق من التأكيد على المشاركة، ومأسسة مرافق وأنشطة الدولة،وإرساء العدالة والمساواة ودولة القانون، والوفاء لمقتضيات التنمية الشاملة المتوازنة في سائر المناطق ولمصلحة المواطنين كافة، والإيمان بعروبة الأردن وموقعه المتقدم على جبهة انتزاع الحقوق العربية المشروعة.

وما زالت الفترة الممتدة منذ منتصف نيسان 1989 حتى أواخر العام 1994، تمثل فترة ذهبية في وعي الديمقراطيين والتقدميين على اختلاف مشاربهم، باحتسابها المرحلة التي تم فيها تثبيت ركائز التحول قانونياً وسياسياً على غير صعيد ومجال، وأعيد خلالها الاعتبار والحقوق لمن أضيروا في المرحلة الطويلة السابقة، وبدأت تتفتح حرية التعبير السجينة والدفينة، وبات الأردن قبلة لنشاطات فكرية وثقافية،وتحسنت العلاقات مع الهيئات الحقوقية والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان وتشكّل نظير محلي لها، وبرزت ظاهرة المنظمات المدنية غير الحكومية.

لم ينقطع المسار بعدئذ، بل شهد مراوحةً ثم جموداً وبعض الانتكاسات، ومرد ذلك الخشية المفرطة لدى دوائر محافظة من الذهاب إلى آخر الشوط، وحتى من مجرد المضي فيه، وبذرائع لا تصمد أمام الوقائع. الواضح أن الفترة الخمسية المقصودة شهدت أعلى حالات الاستقرار.. انكفأت خلالها النزعات الراديكالية والانقلابية، وأبدى الجميع الحرص على العمل في ضوء الشمس وتحت مظلة القوانين، وتوطدت الوحدة الوطنية الداخلية، وتعززت شرعية الدولة ونظامها السياسي.

وبينما كان قانون الدوائر الانتخابي أحد مفاتيح المشاركة السياسية، فقد جاء قانون الصوت الواحد ليحوّل البرلمان من مهماته الرقابية والتشريعية ومن صفة التمثيل السياسي، إلى برلمان خدمات لنواب مناطق. ولم تفلح النداءات التي عبرت عنها غالبية مكونات المجتمع السياسي، في حمل السلطة التنفيذية على الرجوع عن ذلك القانون الذي لا نظير له في دول عالمنا، ولم تتحرك حكومات عدة لترجمة الرؤية الملكية لوضع قانون انتخاب «عصري».

أما الحياة الحزبية، فقد شهدت كبحاً مزدوج المصدر، ففيما ظلت السلطة التنفيذية أسيرة هواجس الماضي في النظر إلى الأحزاب والحزبية، وما رافق ذلك من تقييدات لها وتخويف منها، ومحاولة إقصائها إلى هامش الفضاء العام، فقد عجزت غالبية هذه التنظيمات بدورها،عن تجديد هياكلها وخطابها، وأخفقت في اجتذاب الأجيال الجديدة، وفي إنتاج قيادات شابة مُلهِمة، ولم تفلح في التكيف مع المستجدات الاجتماعية والثقافية: انتشار وسائل الاتصال، تضاؤل أوقات الفراغ.

التراجعات الملحوظة على المستوى السياسي الظاهر، أفضت إلى تجدد ظهور التعبيرات الاجتماعية التقليدية، على حساب المؤسسات السياسية الحديثة،.وذلك بدلاً من حصر وظائف البنى التقليدية في إطارها الاجتماعي، بما أعاق في النتيجة التطور العام،وأضرّ بجهود تعزيز دولة القانون بعموميته وشموليته. وبينما أخذ تقرير للأمن العام على الطابع المحافظ دوراً في تلك «هبة نيسان»، فإن هذا التشخيص الجزئي والمنقوص، لم يتم الأخذ بدروسه، إذ جرى بوسائل وتدابير شتى تكريس كل ما هو محافظ وتقليدي، وكَبَح في المحصلة تطلعات الدولة للحداثة جنباً إلى جنب مع تطلعات المواطنين إلى إرساء العدالة.

وفي استذكار دروس هبة العام 1989، فإنه من المهم التمييز بين تلك التحركات ذات الدوافع التنموية والديمقراطية، وبين مسار لاحق في بعض مناطق الجنوب تحديداً، فـ«هبة الخبز» حملت دوافع سياسية وحتى حزبية بعينها، تتعلق بالمراجعة الرسمية آنذاك للعلاقة مع النظام العراقي السابق، ولا تتعلق بالخبز حصراً. أما التحركات اللاحقة فبعضها ذو صلة بنمو مجموعات أصولية، وبفشل الأحزاب المدنية في الحضور داخل النسيج الاجتماعي سواء لإخفاق ذاتي أو لتقييدات حكومية.

وفي نهاية الأمر، فإن المعالجات السياسية والدستورية للأزمات، مرفوقة ببرامج تنموية وثقافية، وإطلاق طاقات المجتمعات المحلية، لا التدابير الأمنية وحدها، تظل هي الجواب الأفضل على التحديات والأزمات. وما نجم عن هبة 1989 من تحولات ووفاق وطني، هو أوضح شاهد على سلامة هذا الاستخلاص. أما الانسداد السياسي، وإفقار الحياة العامة وتأثيم كل معارضة وأحياناً كل نقد، فهو وصفة لإنتاج الأزمات وإطفاء الروح المعنوية، لا توليد الاستقرار والازدهار.

عشرون عاماً على “هبة نيسان” رهان على المضي في التحولات السياسية
 
09-Apr-2009
 
العدد 71