العدد 70 - أعلام | ||||||||||||||
عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.
فيصل دراج
جعلت السيدة المصرية هدى شعراوي (1879 - 1947)، من تحرّر المرأة، قضيتَها الأولى، لمدة خمسة عقود، أكان ذلك في مصر، أم في محافل دولية، توزّعت على فرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وبلدان أخرى. جمعت في كفاحها المتواتر بين مزايا ثلاث: نشر الوعي النظري القائل بتساوي المرأة والرجل وبضرورة تحرير الطرفين معاً، والربط بين التوعية النظرية والممارسات العملية التي تؤمّن حضور المرأة الفاعل في الحياة الاجتماعية، والإدراك المبكّر لوحدة تحرّر المرأة والتحرر الاجتماعي والوطني. انتزعت بفضل هذا الكفاح لقب: «رائدة المرأة العربية الحديثة»، كما قال بعضهم، أو «قائدة حركة تحرير المرأة في العالم الإسلامي»، كما قال بعضٌ آخر. ولعل حياتها الحافلة، التي جعلت من تحرر المرأة المصرية مدخلاً إلى التحرر الإنساني، هي التي أتاحت لها أن تكون صوتاً فاعلاً في ثورة 1919، وأن تحاور زعيمها سعد زغلول، اتفاقاً واختلافاً، وأن تلتقي بالزعيم الإيطالي موسوليني، وأن تكون على مقربة من النخبة الثقافية والسياسية المصرية، مثل: طه حسين، وقاسم أمين وغيرهما. مع أن دعوة هدى شعراوي إلى تحرر المرأة واكبت النهوض الوطني المصري، الذي تبلور سريعاً في بداية العقد الثاني من القرن الماضي، فإن وعيها بكيانية المرأة لم يكن ممكناً من دون تميّزها الذاتي، الذي دفعها إلى طلب المعرفة وتعلّم اللغات، ووسطها النسائي النخبوي، الذي عرف عناصر مصرية وأوروبية معاً. كتبت في مذكراتها: «رأينا أن المرأة المصرية في أشد الحاجة إلى الاشتراك مع المرأة الغربية لتقتبس من أخلاقها وعاداتها ومدنيتها ما لا يتنافر مع الدين وما يتفق مع النهضة العامة». وإذا كانت معاينة المجتمع الذكوري الأُمّي أضاءت لها الفرق بين الجهل والمعرفة والتخلّف والتقدّم، فقد دفعها عقلها المثقف إلى الانطلاق من كرامة الإنسان، من حيث هو، بعيداً عن تصور تقليدي يحوّل المرأة إلى موضوع للرجل وخادم له. هذا العقلُ، الذي تكوّن في بيئة تعرف الآداب والفنون، علّمَ هدى شعراوي مبدأ الإقناع، الذي يشجب العسف والعنف واستلاب الآخر، ويضمن مبدأ الاعتراف المتبادل بين البشر، إذ لكل إنسان وجود يجب احترامه ورغبات ينبغي الالتفات إليها. أفضى التعرّف على المرأة الغربية، المتمتعة بالثقافة والحرية بمقادير مختلفة، إلى مقارنة وضعها بالمرأة الشرقية، ذلك أن المقارنة الواعية مدخل إلى النقد الذاتي واقتراح سبل التقدم والإصلاح. حين تذكر شعرواي في مذكراتها «مدموزيل مارغريت كليان»، المهتمة بوسائل تعليم المرأة وتثقيفها تقول: «سألتها أن تلقي علينا محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية في مسألة الحجاب» و«أن تعود إلينا بعد ذلك لتلقي سلسلة محاضرات على سيداتنا». كان ذلك في منتصف كانون الثاني 1909، الذي هو تاريخ أول محاضرة عامة دعت إلى تحرير المرأة في مصر. وسواء أثار هذا التاريخ، اليوم، أسئلة كثيرة أو قليلة، فإن الأساسي فيه يتمثّل بأمرين: أولهما إرادة التحرر لدى هدى شعراوي التي جعلت، لاحقاً، من «المحاضرة العامة» عنصراً أساسياً ثابتاً في سياستها التربوية، وثاني الأمرين هو «قضية الحجاب»، الذي لم ترَ فيه «رائدة تحرر المرأة» واجباً شرعياً، بقدر ما عدّته إشارة إلى تقاليد تسوّغ قمع المرأة وتُبارك الاستبداد الذكوري. لهذا ميّزت شعراوي، التي كانت أول من خلع الحجاب، بين وضع الحجاب، والتربية الإسلامية التي تأمر بتحرر المرأة وبمساواتهابالرجل، كاشفةً عن الفرق بين «سلطة العادات»، وروح الإسلام التي تنطلق من كرامة الإنسان. بل إنها رأت في الحجاب تعبيراً عن عزلة المرأة عن المجتمع، وعن عزلة المجتمع المصري عن المجتمعات المتقدمة. هذا الاجتهاد، الذي يلتزم بحقوق المرأة ولا يتنكر لمبادئ الإسلام، جعل شعراوي فخورة بدينها وبدوره الريادي في إنصاف المرأة، وأقنعها بالدفاع عن الإسلام في المحافل الدولية. كأن تقول في المؤتمر الذي عقد في روما العام 1923: «إن المرأة المصرية الحديثة تكاد تساوي أختها الغربية في مدنيتها، وإن الدين الإسلامي منحها من الحقوق ما تودّ المرأة الغربية لو تناله». هذا العقل المثقف لا يبدأ من تباين الأديان، بل من وحدة المدنية الإنسانية، ولا ينطلق من فصل جاهل بين الشرق والغرب، بل مما يؤكّد الإنسان أخاً للإنسان. ذلك أن الدين السماوي يحض على التسامح ويستبعد الكراهية. كتبت شعراوي تحت عنوان «حقوق المرأة في الإسلام»: «إن جهل المرأة ، الذي يعود إلى انحطاط التعليم في مصر، هو سبب استسلامها لهضم حقوقها». تطلّعت هذه السيدة المتميزة، إلى النهضة والارتقاء الاجتماعي، وقرأت الإسلام، كما غيره من الأفكار، من وجهة نظر تحرّر المرأة، الذي هو تحرير للمجتمع كله. انطلاقاً من هذا الهدف قالت بإصلاح العادات والأعراف والقوانين التي تنتهك إنسانية المرأة وحقوقها، مثل تعدد الزوجات، الذي يلبّي رغبات متخلّفة وليس فيه شيء من تعاليم الدين، ودعت إلى تحديد عمر المرأة عند الزواج -ستة عشر عاماً على الأقل- كي تكون قادرة على التمييز بين ما ترفضه وما تقبله، وتأكيد حقها في طلب الطلاق أسوة بالرجل، مع ما يضمن حقوقها وعدم العبث بكرامتها، والابتعاد عن التعامل الشكلاني مع حقوق الإرث، لأن مستلزمات المرأة في الحياة تساوي حاجات الرجل، وقد تزيد عليها. أدركت «رائدة تحرّر المرأة» أن القضية الأساسية لا تقوم على رصد الظواهر التي تسلب المرأة وجودها الحقيقي، بل على إعداد امرأة متعلمة، تعرف حقوقها وتدافع عنها، ولاحظت مبكّراً أن التعليم وحده لا يحرّر المرأة، وأن هذا التحرّر يستلزم وعياً اجتماعياً حداثياً لا يحجب على المرأة، ولا يفرض عليها العزلة والحجاب. تقول في هذا المجال: «لا يجوز أن نغفل حقيقة أخرى، وهي أن النقاب منع تعلم المرأة، ذلك أنه في سن معينة يحال دون ذهاب الفتيات إلى معاهد التعليم...». واجهت شعراوي الجهل والانغلاق بالتعلم والانفتاح، مدركةً أن التعليم وحده في مجتمع مغلق قد يكون شكلاً آخر من الأميّة، وأن معنى التعليم قائم في إشراك المرأة مع الرجل في معالجة القضايا الاجتماعية والوطنية. فلا معنى للتعليم إن حافظ على الفرق المتوارث بين الرجل والمرأة، الذي يخص الأول بحقوق السيطرة والإخضاع، ويطالب المرأة بواجبات الانصياع والخضوع. وحّدت شعراوي بين تعليم المرأة، وتوسيع حضورها في المجال العام، الذي يتضمن العمل في مرافق الدولة، وإنشاء الجمعيات، والمشاركة السياسية، والقيام بالتظاهرات، ونقد الأحزاب التي لا تتعامل بجدية مع اقتراحات «الحركة النسائية». والأمر الأخير هو الذي دفع شعراوي إلى نقد سعد زغلول والصدام معه بلغة حادة واضحة جريئة، حين لم يتعامل بجدّية مع مطالب «الحركة النسائية الوفدية»، مبرهنةً له أنها قائدة اجتماعية وسياسية في آن. ولعل الفرق بين التعليم والمشاركة في الشأن العام هو الذي وضع في خطاب شعراوي مستويين متكاملين، يؤكد أحدهما التعليم، الذي هو نقض للأميّة لا غير، ويتحدث ثانيهما عن ارتقاء ثقافي ومعنوي وقيمي، يستولد من المرأة المتعلمة امرأة حديثة قادرة على المبادرة والريادة والقيادة. لذلك طالبت بـ«رفع مستوى المرأة الأدبي والخلقي لتحقيق المساواة السياسية والاجتماعية بالرجل من وجهتي القوانين والآداب العامة»، وقالت وهي تطالب للنساء بحق الانتخاب: «ليس من العدل أن تخضع النساء للتشريع ويتجرعن آثاره وهن نصف الهيئة الاجتماعية دون أن يكون لهن رأيٌ في وضعه». أمران ميّزا ممارسات هدى شعراوي: لم تكن مشغولة، وهي تشير إلى الدين الإسلامي بشكل متواتر، بأسْلَمة الغرائز والأرواح، بل بالاستعانة بالدين لإنجاز تقدُّم في وضع المرأة الشرقية، يشكل جزءاً من تقدم اجتماعي ووطني عام. ولم تكن مهجوسة بنزعة نسوية مريضة، تضع المرأة نقيضاً للرجل، مدركةً أن المجتمع المتخلّف يقهر الطرفين معاً، بأشكال مختلفة. نظرت إلى المجتمع كله بشكل مشخص، موحدة بين الكل والأجزاء، وطامحة إلى إصلاح الطرفين. تقول في مذكراتها: «لا حاجة للتدليل على أن أعمال النساء اللاتي هن نصف مجموع الأمة تمثّل حركة تقدمها جميعاً. ولا حاجة للاستشهاد بالتاريخ في مواطن عدة على أن رقيّ الأمم مرتبط برقيّ النساء، ...، ونحن إذا طالبنا بإصلاح النساء خاصة، فلسنا نُؤْثر أنفسنا على غيرنا من عناصر الأمة، و«لكننا نعرف أن في إصلاح المرأة إصلاح المجموع ...». أكدت شعراوي «إصلاح النساء» مدخلاً إلى إصلاح ثقافي اجتماعي عام، يتضمن السياسة والتعليم والدين والعوائد والأخلاق، مقررةً أن الدعوة إلى «المرأة الحديثة» دعوة إلى تحديث الحياة الاجتماعية في مستوياتها المتعددة. قاتلت شعراوي من أجل مساواة المرأة بالرجل، ومارست ما قاتلت من أجله، مبرهنة أن المرأة الحديثة تتفوق على الرجل المتخلف والحديث معاً. ربما نعبّر عن شخصية هذه الرائدة العظيمة ببعض من كلامها: «إن على الإنسان أن يكون صريحاً، لا سيما في زمن سئمت فيه الدنيا طريقة المحاولات القديمة»، «إن الذي لا يريد لخصومه ما يريده لنفسه من الحرية، غير جدير بالحرية»، «إن الأموات أكثر تمسكاً بحقوقهم منا». تمسكت هدى شعراوي بحقوق الأموات والأحياء، وناشدت غيرها أن يتمسك بهذه الحقوق. |
|
|||||||||||||