معن البياري

خمسة وعشرون عاما مضت على مغادرتي إربد، التي أقمت فيها أزيد من ثلاث سنوات، هي مدة دراستي في جامعة اليرموك. كانت السُّكنى هناك أيسر كثيرا من ارتحال يوميّ من عمان أو الزرقاء إلى إربد. في تلك السنوات من الثمانينيات، كانت إربد مدينة مبهجة لفتى قادم من مدارس وكالة الغوث ومدارس الحكومة في الرصيفة، رغم خلوها من أسباب البهجة التي تعرّف إليها هذا الفتى بعدئذ في غير مدينة في غير بلد. يكفي أن تكون مستقلا بنفسك، لك محيطك الخاص من الأصدقاء، وبعضهم صار له شأن في غير موقع وغير مهنة. يكفي أنك في إربد؛ تختار في مساءاتها، إذا ما أردت، المكوث في منزلك المشترك مع أصحابك، أو أن تتمشى في الحي الجنوبي باتجاه وسط المدينة، تستوقف نفسك أمام سينما الجميل، وتندفع إلى ساندويشات شهية من مطعم بالقرب منها، أو تُؤثر العشاء في داخل المطعم نفسه. تمضي في تجوّل بريء، تُصادف زملاء وأصدقاء ومعارف، تلفّ وتدور ثم تعود لا تلوي على شيء، وإن حدث أن غامرت فبقضاء بعض ليلك في سينما الفردوس أو مثيلاتها، تُشاهد فيلما مصريا جديدا أو قديما.

ثمة فضاء باق في الذاكرة عن إربد، مساحات دور السينما ومطاعم الفول والفلافل فيها واسعة بعض الشيء، عدا عن الحياة الجامعية الأبهى في ذلك الزمن الطريّ، حينها كانت الصداقات وطيدة، مع نور سليمان، إلياس محمد سعيد، أسامة الرنتيسي، محمد فرحان ونضال منصور، مثلا. إنها جامعة اليرموك، وفيها دائرة الصحافة والإعلام التي كانت فيها التمارين الأولى على سهر الجرائد ومتابعة حروفها وتوضيب صفحاتها، وقبل ذلك وبعده، الكتابة فيها عن أي شيء تعن الكتابة عنه مثل انقطاع الماء لساعات في قفقفا وإشهار غسان كنفاني أعظم كاتب. لا بدّ أن تصدر «صحافة اليرموك» في موعدها الأسبوعي، وثمة سهرة الليلة الأخيرة حتى الفجر الذي ما إن يبزغ حتى نغادر إلى «مطعم ياسين»، وقيل لنا أيامها إنه يغلق أبوابه في التاسعة صباحا. بالقرب منه مخبز التنور الشهي، نشتري الخبز، ثم ندلف إلى المطعم، وبين عمال وسائقين استيقظوا باكرا وتجمعوا فيه، نتناول كميات وفيرة من الحمص والفول، ونحبس بالشاي في مقهى لصيق بالمطعم.

سُقيا للذاكرة التعيسة، لا تستجيب لاستدعاء اسم الشارع واسم ذلك المقهى، لكن «مطعم ياسين» باق في الذاكرة، ربّما لأننا واظبنا، نحن بعض الأصدقاء، في أيام متقطعة من شهور عديدة، على الاستمرار من دون نوم لنلتحق به صباحا، وأحيانا لنكمل فيه جدلا بشأن مقصد الحكومة الأردنية من استضافة المجلس الوطني في عمّان، ومدى انحراف ياسر عرفات نحو التسوية، أو بشأن مواقف غير مقبولة للحزب الشيوعي وللجبهتين الديمقراطية والشعبية، أو بشأن رئاسة أحمد عبيدات الحكومة، أو جمال رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط»، وما إلى ذلك من مسائل ضاعت ليال كثيرة في الثرثرة عنها.

هناك، على طاولات «مطعم ياسين» بعض من حكايات لنا بعيدة، وكذلك في حي التركمان والبراحة والحي الجنوبي وغيرها في إربد. وحكايات أكثر في شوارع جامعة اليرموك نفسها، وفي الرئيسي منها، قدّام مبنى كلية الهندسة والعلوم، باتجاه دوّار كلية الآداب، كان يحدث أن يتمشى رئيس الجامعة عدنان بدران، ومعه مروان كمال وأساتذة آخرون أحيانا. كانت رائحة غليونه مثيرة لفضول الفتى الذي كنتُه. وفي أثنائها، تجري اعتصامات في مناسبات وطنية وسياسية، وكان هناك حنق على مظاهر أمنية وأحيانا بوليسية غير خافية، وكانت استدعاءات زملاء إلى التحقيق، على ما يسوى ولا يسوى من الأمور، صراع بين الإخوان المسلمين وسائر الآخرين. الكافتيريا في الجامعة مكان أثير للمكوث طويلا وتفويت المملّ من محاضرات، أسأل الآن عما إذا كانت باقيةً في موضعها وعما إذا كانت باقية في جنباتها أيّ آثار لدردشاتنا ومزحياتنا، وأحيانا حردنا من بعضنا بعضا، ومنا في تلك الأيام غسان عبد الخالق، جهاد أبو حشيش، كمال حبش، سمير أبو طربوش، حلمي الدرباشي، محمود أبو سالم، زياد بركات وأمين برهوش و آخرون.

سُقياً مرة أخرى للذكريات وشتاتها، يكاد فزع يُصيبني لمّا أتذكر أنها مرات قليلة معدودة إلى درجة مؤسفة، زرت فيها إربد، منذ مغادرتي لها متخرجا من جامعة اليرموك نهاية صيف 1985. لا أعرف بالضبط ما إذا كان الأمر يتعلق بخوف من غربة قد أصادفها لو فعلتها، وركبت الباص مرة وقصدت إربد، واستأذنت حراس الجامعة بالدخول، لأتجول في ساحاتها وبين دواويرها، وفي ممرات كلياتها وأقسامها، في أكثر من كافتيريا فيها، في القرية الإنجليزية فيها، في مبنى كلية الاقتصاد الذي كنّا نأنف من ابتعاده عن «ثقلنا» الأهم أمام مبنى الهندسة والعلوم. كان يغالبني شوق إلى زمن راح، إلى أصحاب كانوا تواقين إلى دنيا مشرعة. لو فعلتُها تكراراً، سأكمل بتجوالٍ آخر أمام مطاعم قرب سينما الجميل، سأسأل عن «مطعم ياسين» إن كان ما زال في مكانه، قد أغامر وأجرب مقدرتي على استدعاء فرح كنّا عليه عندما نتلملم على طاولة فيه، ثم نأكل، ونضحك....

أتذكّرني في إربد أتعلم الصحافة وأتدرب عليها، وأشاهد فيلم «العار» في سينما الجميل وقد وصل للعرض الأول للتو، وأقرأ مقالة لبدر عبد الحق في «الرأي»، وأنتظر محاضرة الأستاذ نبيل حداد، وأدفع ستين قرشا لباص جت للمغادرة عصر الأربعاء إلى عمان،... ثم أبكّر في الوصول إلى إربد صباح السبت، لأزيد من ثلاث سنوات ونصف.