العدد 69 - ثقافي | ||||||||||||||
مدني قصري أندريه ماكين (Andreï Makine)، الحائز جائزة «غونكور»، وجائزة «ميديسيس» الفرنسيتين (1995)، عن روايته «الوصية الفرنسية»، أديب روسي يكتب باللغة الفرنسية منذ وصوله إلى فرنسا، قبل اثنين وعشرين عاماً. وهو يُصدر اليوم روايته الجديدة «حياة رجل مجهول». لا شك أن الاشتغال على الذات والتجربة الذي يمثله الانتقال من لغة إلى أخرى عمل جبار حقاً. فهل كانت الكتابة بالفرنسية، بالنسبة للأديب والكاتب الروسي المنشقّ السابق، أندريه ماكين، ضرورة أم اختياراً؟ يقول ماكين: لم أطرح على نفسي مثل هذا السؤال من قبل أبداً، أو بالأحرى لم أطرحه بهذه الصيغة. إنه يكتب بالفرنسية بشكل طبيعي للغاية، منذ قدومه إلى فرنسا. هذه اللغة، سمعها منذ طفولته، وهو في سيبيريا النائية، من جدته، فرنسية الأصل. وما فتئت الفرنسية تغمره، وتستحوذ على ذهنه، وتشجعه، وتحث حبّه وولعه بالأدب الفرنسي. لذلك يرى أن الفرنسية لغته الأم، أو «لغته الجدة»، بحسب تعبيره. بعض المثقفين يؤكدون أن الفرنسية مارست من التأثير العميق في اللغة الروسية، منذ وقت طويل، ما جعل أي فرنسي يزور روسيا، يتدبر أمره بسهولة في موسكو، من غير أن ينطق بكلمة واحدة بالروسية. في هذا الصدد يقول ماكين إن هذا كلام جدّي بالفعل، مضيفاً أن هذه الحقيقة أكدها من قبل الأديب سيلفين تيسون (Sylvain Tesson) الذي شرح الأمر بكثير من الوضوح، وبكثير من الطرافة أيضاً في كتابه «كاتاستروف!» (الكارثة). من المؤكد أن قائمة الاستعارات الفرنسية في اللغة الروسية طويلة جداً، يذكر منها ماكين أمثلة عن كلمات فرنسية صارت روسية، مثل: «سابوتاج» (تخريب)، و«كوشمار» (كابوس)، و«بيلوت» (ربّان). يؤكد ماكين أن ثمة صلةً أدبية وثيقة وقوية جداً ما بين روسيا وفرنسا: «فضلا عن عصر الأنوار الذي كانت فيه الفرنسية لغة الدبلوماسيين والمثقفين الأوروبيين، كتب تولستوي الصفحات الأولى من روايته الشهيرة (الحرب والسلام) بالفرنسية مباشرة، قبل أن يتراجع عن قراره. وهناك أيضاً دوستويفسكي ، الذي استطاع أن يترجم إلى الروسية من الفرنسية رواية (أوجينيه غراندي) للأديب الفرنسي بلزاك. وهو ما حدّد موهبته الأدبية الحقيقية وبلورها». لا بد من الإشارة إلى أن هنالك كتّاباً روسيين آخرين، هاجروا وأقاموا في فرنسا لسنوات طويلة، لكنهم لم يجتازوا عتبة اللغة الفرنسية، وظلوا يكتبون بلغتهم الأم. منهم: تورغينييف (Tourgueniev)، وإيفان بونين (Ivan Bounine)، الحائز جائزة نوبل للأدب في العام 1933، اللذان يكن لهما ماكين الكثير من التقدير. لكن ثمة، بعض الاستثناءات يشير إليها، منها: «مارينا تسيتائيفا» (Marina Tsvetaïeva) الذي عاش خمسة عشر عاماً في ضواحي باريس، في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكتب بعض قصائد النثرية بالفرنسية مباشرة. بين اللغتين الروسية والفرنسية فوارق كثيرة، وهي فوارق، حسب ماكين، قد تجعلهما لغتين متعارضتين تماماً. الفرنسية لغة تحليلية، غنية بالعديد من العبارات، بينما في اللغة الروسية يغلب الإعراب على النحو وقواعده. من الاختلافات الأخرى أن الفرنسية ديكارتية، وقد بلورها عبر الزمن، كبارُ كتّاب البلاغة، ما يفسّر تميّزها بالإيجاز والإفراط في الدقة الذي يميّز الأدب الفرنسي عموماً. هناك العديد من الكتّاب الأجانب المقيمين في فرنسا، الذين تبنّوا اللغة الفرنسية في كتاباتهم الأدبية. فهل في هذا ما يثير الدهشة؟ يرى ماكين أن الأمر لا يفاجئه، لكنه يظل حذراً، عندما يتأمل الاشتغال الجبار على الذات الذي يقتضيه الانتقال من لغة إلى أخرى. وهو لا يخفي قناعته بأن العديد من الكتّاب في فرنسا كثيراً ما يلجأون إلى مساعدة الآخرين في هذا الشأن، وبأن هؤلاء الكتّاب، أو بعضهم، لا يفعلون شيئاً، بل يكتفون بإعادة كتابة بعض النصوص التي تُكتب لهم، ليس إلا! في روايته الأخيرة «حياة رجل مجهول»، يقول أحد الأبطال: «اللاجئ ليس له من موطن آخر سوى أدب وطنه». هل يشاطره ماكين هذا الرأي؟ «لا شيء أفضل، للدفاع عن لغة من اللغات، من كتابة نص جيد»، يقول ماكين، ويضيف: «كتبي، أعمالُ عِشْق أوجّهها إلى اللغة الفرنسية. لقد ذكرت هذا من قبل في كتابي (فرنسا هذه التي ننسى أن نحبها)، في الوقت الذي يتعرّض فيه الأدب إلى التّلف، وإلى العفن، بفعل العولمة المقيتة. ناهيك عن التلفزيون، ذلك الرحم الشفهي، صاحب أكبر الحماقات وأسوئها. وناهيك عن العامية السافلة المخجلة المنحطّة، القادمة من الأحياء التي تفتقر للحشمة والاستحياء». يختتم ماكين حديثه بقوله: «أنْ أصبح (شاعرياً) وبالفرنسية، في خضم هذا الضجيج والعجيج العالمي، هو كفاحي الحقيقي في هذه الحياة! إن الخلاص الممكن الوحيد، يمرّ بلا شك، من خلال النثر الشعري. فإن تحقق للبشر ذلك، ساعتها يمكن للتشارك ما بين الناس أن يفوق وسائل الاتصال!». |
|
|||||||||||||